كرم نعمة
المراقبون المتفائلون بما فيهم أولئك المحللين الاستراتيجيين الذين يجهدون للحفاظ على وظائفهم في مراكز دراسات ممولة من قبل الحكومات، يعملون لجمع الأخبار السارة ويفلسفون تفاصيل المؤشرات لتحقيق ما يعني مصداقية تلك الأخبار وواقعيتها. مع أنه يسهل على أي مراقب التعبير عن الأماني باعتبارها تحليلا سياسيًا، وهي ليس كذلك بالمطلق!
عند توقيع اتفاق بكين بين السعودية وإيران، لم يرتفع منسوب الأخبار السياسية السارة فحسب، بل صارت كمية تلك الأخبار أكثر مما ينبغي في مدونات وسائل الإعلام، وهناك من بقي يعوّل عليها وجعلها نقطة انطلاق لشرق أوسط يسوده الوئام ويعمل بجد لتحويل المنطقة إلى ورشة اقتصادية هائلة تغدق بالرخاء على شعوبها. لدرجة أضحت تلك المشاريع "وهي مجرد ورق وصور تلفزيونية" بمثابة خطط استراتيجية تُطالب شعوب المنطقة الترحيب بها باعتبارها الضامن الوحيد لإنقاذ المنطقة من حروبها الطائفية وقبر سياسة الهيمنة التي بنيت عليها إيران الخمينية!
ووصل غسيل السمعة السياسي من كبار محللي دول خليجية متضررة بالأساس من سياسة الهيمنة الإيرانية، أن يقدموا إيران كدولة رحومة رؤومة مسالمة تعمل من أجل رخاء الإقليم، وليس لديها أي مشروع طائفي للهيمنة على المنطقة!
لن نحتاج إلى ذاكرة قوية، كي نسأل أصحاب التحليلات السارة عن مصير المقالات والدراسات التي دبجوها بعد اتفاق بكين، والرفاهية التي وعدوا بها شعوب المنطقة من المشاريع والرؤى الاقتصادية المتفائلة التي تنتظرهم بمشاركة إيران كقوة اقتصادية مسالمة؟
لقد انكسر الاطمئنان الوهمي السياسي الذي أريد له أن يكون في قمة الأخبار السارة بمجرد انطلاق الرصاصة الأولى في غزة، فهناك ما يكفي من الأخبار السيئة في المنطقة والعالم، ولا أحد يسأل اليوم عن اتفاق بكين بين السعودية وإيران وإلى أين سيصل، وما مصير المشاريع الاقتصادية العابرة للبلدان.
في واقع الحال السياسي، أن الاطمئنان الوهمي لدول المنطقة كان قائمًا منذ اليوم الأول لاحتلال العراق عام 2003. وكل عمليات إضفاء الشرعية على العملية السياسية في بغداد من دول الإقليم، كانت بمثابة إذعان للسطوة الأمريكية الإيرانية وعدم الرغبة بمخالفتهما.
ومع أنه لا يوجد لدينا الكثير من المحللين الذين يجمعون مؤشرات الأخبار غير السارة، إلا أن هذه الأخبار من الأهمية ما يجعل أيًا ممن يعبرون عن التفاؤل السياسي يتوقفون باهتمام أمام من يكسر نغمة هذه التفاؤل.
في قائمة الأخبار غير السارة ثمة الكثير، تبدأ بالكم الهائل من الكلام عن الدولة الفلسطينية المرتقبة، وهو مشروع أمريكي لا يتوقف الرئيس جو باين ووزير الخارجية انطوني بلينكن عن تذكير وسائل الاعلام به كخبر سار لمستقبل السلام في المنطقة بعد نهاية حرب غزة. يتحدث بلينكن عن الدولة الفلسطينية أشبه بأغنية سياسية عن تاريخ عميق وجغرافية ضيقة، أغنية عتيقة فاقدة لنكهتها ويراد للذاكرة السمعية العربية استعادتها بشكل دائم.
لكن ماهي تلك الدولة الفلسطينية التي تتحدث عنها الولايات المتحدة، ويعبر زعماء الدول العربية المطبعة مع إسرائيل والدول التي في طريقها للتطبيع، عن حاجتهم إليها، كي يتخلصوا بها من تخاذلهم الشائن للوقوف بوجه صلافة نتنياهو.
الدولة الفلسطينية المرتقبة ببساطة خبر غير سار مطلقًا وإن كان يدرج في قائمة الأخبار الأمريكية السارة، على اعتبار أن واشنطن تقف بوجه العناد الإسرائيلي بمجرد إعلانها عن تلك الدولة المرتقبة.
بيد أن "مبدأ بايدن" للسلام في الشرق الأوسط محكوم عليه بالفشل. فـ "العقيدة الكبيرة والجريئة" التي افترضها الكاتب في صحيفة نيويورك توماس فريدمان ليست أكثر من مجرد إعادة صياغة للمبادرات الفاشلة من قبل الإدارات الأمريكية نفسها. ففشل الولايات المتحدة في التوصل إلى حل للأزمة المستمرة في الشرق الأوسط يجعل وضعها الذي أعلنته بنفسها كدولة لا غنى عنها في العالم موضع نقاش. وتحولها إلى "دولة مستهلكة" عندما يتعلق الأمر بخلق ظروف السلام في الشرق الأوسط.
في حقيقة الأمر أن الولايات المتحدة تريد في الكلام الكثير عن الدولة الفلسطينية استئناف عمليات التطبيع التي انكسرت مع حرب الإبادة في غزة، لأنها الضمانة القائمة لاطمئنان إسرائيل. وبعدها الاعتراف بدولة فلسطينية لا يُشار إلى حدودها ولا شكلها. بيد أن غطرسة وصلافة نتنياهو أكبر من كل هذا الكلام السياسي الخادع، عندما عارض أي محاولة فرض إقامة دولة فلسطينية عليها بشكل أحادي الجانب. في محاولة لخلق خطر غير مجود بالأساس.
قال نتنياهو "الجميع يعلم أنني أنا من تصدّيت لعقود من الزمن لإقامة دولة فلسطينية من شأنها أن تعرّض وجودنا للخطر، موقفي كان ولا يزال واضحًا، وأصبح أقوى بعد حرب غزة".
فهل بقي ما يمكن أن يجعلنا نضع الكلام عن الدولة الفلسطينية المرتقبة ضمن الأخبار السارة؟
وهل يوجد أي من الأخبار السارة عندما يتعلق الأمر بإيران؟ ليس لدينا إجابات تدعو إلى التفاؤل لأن القلق على درجة من الغليان إلى الحد الذي يجعل من الغموض سيد الموقف! بيد أن آخر الرسائل الأمريكية لإيران تعيد الحكمة التاريخية في الصراع بأن النصر هو مفهوم بسيط ويكمن في استخدام الردع لمنع العدو من القيام بشيء ما.
هناك حاجة متجددة للردع حيال إيران، وليس غسيل السمعة السياسي الذي رافق اتفاق بكين.
مع ذلك لا يوجد ما يجعلنا ويجعل أولئك المحللين المذكورين في أول فقرة من المقال، لديهم ما يكفي من الأخبار السارة.