د. حسين الهنداوي
(4)
تؤكد كافة المصادر اليونانية والرومانية ان المفكر البابلي برعوشا – بيروسوس حقق في العالم اليوناني والهلنستي عموما شهرة واسعة كمفكر ومؤرخ وكعالم فلك وفيزياء لامع. وبالإضافة الى كتبه في التاريخ والسياسة والفلك، ينسب اليه المعماري الروماني السوري الاصل ماركوس فيتروفيوس Vitruve في الجزء التاسع كتابه الموسوعي "العمارة"De l'architecture- الفضل في اختراع الساعة الشمسية شبه الدائرية المجوفة،
وهي عبارة عن كتلة مكعبة تعمل بالماء، كما ينسب له اختراع دراجة هوائية نصفية التجويف ومبنية على خطة هندسية مبتكرة محكمة.
ومما يخبرنا به فيتروفيوس ايضا هو ان برعوشا غادر مدينة بابل أو عاصمة البلاد الكلدية، وذهب اولا إلى غرب آسيا حيث عمل في تدريس ونشر العلوم البابلية الجديدة هناك وخاصة في مجال العلوم الفلكية، وان ابرز ما قام بيروسوس بتعليمه خارج بلاده، هو نظرية مبتكرة في تفسير حركة القمر حول الشمس ومظاهر حالاته المختلفة ناقلا عنه القول ما يلي حول موضوع "تزايد وتناقص ضوء القمر" (وباللاتينية De lunae lumine crescente et diminutione.) وبترجمتنا عن الفرنسية:
1ـ "أن القمر كروي، نصفه من ضوء ساطع، والنصف الآخر أزرق اللون؛ والقمر عندما يدور في فلكه ويصير تحت الشمس، تجتذبه أشعتها وقوة حرارتها فيعطيها عندئذ قسمه الساطع للتماثل القائم بين هذين النورين؛ ولذا، وبينما يتجه الجزء العلوي منه بفعل الانجذاب نحو قرص الشمس، لا يستقبل الجزء السفلي أشعتها ولذا يكون معتما نتيجة التماثل مع الهواء، الى درجة أن القمر عندما يكون عموديا ومعرضًا لتأثير أشعة الشمس، يجمع كل السطوع على جانبه العلوي، وعندئذ يُسمى القمر الأول".
2ــ "يكون القمر أقل عرضة لتأثير الشمس القوي كلما استمر في مسيرته نحو الشرق. ولذا فان نهاية الجزء الساطع منه تظهر للأرض مثل خيط من الضياء (وهو الهلال في يومه الثاني)؛ ويطلق عليه القمر الثاني عندئذ. ثم يتحرك القمر بعيدًا أكثر فأكثر عن الشمس من خلال حركة دورانه اليومية، فيأخذ على التوالي اسم القمر الثالث فالرابع؛ ثم في اليوم السابع، وعندما تكون الشمس باتجاه الغرب، يكون القمر في وسط السماء بين المشرق والمغرب، فيما يظهر من الأرض نصف جزئها المضيء، ثم يبتعد القمر عن الشمس الى نصف السماء؛ ثم أخيرًا، وعندما تكون مساحة السماء ممتدة بأكملها بين الشمس والقمر، وتبدو الشمس في ما وراء أعماق الغرب والقمر كاملا في الشرق، يكون القمر في أبعد مسافة ممكنة عن الارض حيث يظهر له من أشعة الشمس في اليوم الرابع عشر، كل جزئها المنير على شكل قرص كامل، ثمّ يأخذ بالتضائل يوميا والتقدم من خلال حركات دورانه المتعاقبة نحو اكتمال الشهر القمري، قبل ان يخضع القمر من جديد لتأثير الشمس، والتواجد تحت أشعتها، مكملا عندئذ عدد الأيام التي يتكون منها الشهر القمري"".
أما بالنسبة لعلم الفلك المتمثل بدراسة تأثير العلامات الاثني عشر والكواكب الخمسة والشمس والقمر على مراحل حياة الإنسان، فيخبرنا فيتروفيوس ان بيروسوس اكد على "وجوب الرجوع إلى حسابات الكلدانيين، لأنهم اهتموا بشكل خاص بعلم الوراثة، للتمكن من تفسير الماضي والمستقبل عن طريق النجوم. اذ ان الاكتشافات التي نقلوها إلينا في كتاباتهم تظهر المستوى الذي كانت عليه معارف وعبقرية الرجال العظماء الذين انجبتهم الأمة الكلدانية. وأولهم بيروسوس الذي جاء ليستقر في جزيرة ومدينة كوس حيث فتح مدرسة هناك. وهذه العلوم كانت موضوع دراسات علماء الوراثة الهلينستيين مثل أنتيباتر وأيضًا أرخينابولوس، الذي أثبت أن علم الوراثة يعتمد بدلاً من ذلك على الحمل وليس على الولادة".
- مؤرخ رائد ومفكر بالتاريخ
الى جانب نظرياته المبتكرة في علم الفلك، اهتم برعوشا بتوثيق تاريخ العالم القديم منذ نشأة الخليقة حتى وفاة الاسكندر المقدوني في بابل عام 323 ق.م. ومن الواضح انه كان مدركا بان احداث التاريخ لا تقتصر على النواحي السياسية والحربية انما تشمل كل مظاهر الحياة الإنسانية لا سيما الحضارية اي الثقافية والاقتصادية والاجتماعية لكنه امتاز في ذات الوقت بانتمائه الواثق الى حضارة سومرية - بابلية عظيمة، والى شعب رافديني متقدم على المستوى العالمي.
وبرعوشا كان يعرف ان الملك البابلي نبوخذ نصر نجح في تحويل بابل "من منطقة تحت سلطة الاحتلال الآشوري إلى إمبراطورية عظيمة"، كما كتب هذا المؤرخ البابلي الذي نخصص له هذه الدراسة بالاعتماد أساسا على ما وصلنا من كتاباته في هذا المجال وهي مجموعة مقتطفات تاريخية وفكرية مأخوذة من عدد من مؤلفاته وخاصة من كتابه الكبير "التاريخ البابلي" المعروف بأسم "بابلونيكا Babyloniaca"، الذي قام بتأليفه في حوالي 272 ق.م، باللغة اليونانية التي كانت لغة الإدارة والثقافة في غرب آسيا خلال الفتوحات المقدونية، وعرض في اجزائه الثلاثة تاريخ العالم القديم حتى القرن الثالث ق.م، اعتمادا على النصوص الدينية والإدارية والتاريخية السومرية - البابلية، مورداً بأسلوب سردي متدفق، روايات ومعلومات مفصلة ومتكاملة عن عقائد العراقيين القدماء الدينية وافكارهم الفلسفية وعلومهم وآدابهم وفنونهم وطقوسهم الاجتماعية، وكذلك ابرز الاحداث التي مرت بها دولهم المتعاقبة منذ اول دولة سومرية في الالف الخامس قبل الميلاد وحتى عصره، متطرقا الى ملوك كل دولة وسلالة حاكمة وفترات حكمهم، وهي تشمل سلسلة الملوك السومريين والاكديين والبابليين والحثيين والعاموريين والاشوريين والكلدانيين والفرس والعرب وانتهاء باوائل ملوك الدولة السلوقية الذين عاصرهم برعوشا واهدى لملكهم الثاني مؤلفه المذكور أعلاه باجزائه الثلاثة.
ويمكن ايجاز مجمل موضوعاتها كما يلي:
- انبثاق الخليقة وولادة العالم البشري.
- علاقة العالم البشري مع العالم الالهي.
- انبثاق الحضارة والعمران وعموم المعرفة.
- دويلات وملوك المدن الاولى قبل الطوفان.
- قصة الطوفان برواياتها الاصلية.
- دول وملوك بلاد ما بين النهرين بعد الطوفان حتى نبوخذنصر.
- الدولة البابلية الكلدانية الأخيرة وملوكها منذ تأسيسها على يد نبوبلاصر في 626 ق.م. حتى سقوطها امام الغزو الفارسي الاخميني بقيادة الملك كورش في 539 ق.م.
- التعريف الموثق بولادة وتاريخ عهد الملك نبوخذنصر.
- ملوك الدولة الفارسية الاخمينية ببابل ما بين عهدي كورش ودارا الثالث.
- الاسكندر المقدوني وملوك الدولة السلوقية التي عاصرها برعوشا في القرن الثالث قبل الميلاد.