طالب عبد العزيز
غالباً ما يبدأُ الصباحُ عندي بأغنية لفيروز، وفنجان قهوة، وثلاث حبات من التمر، وقلما يبدأُ بضجر ما، أنا قليلُ الضجر، وهِبتُ حسنَ توجيه الساعات والأيام. البيتُ خال إلّا منّي، والمطبخُ آمنٌ لصناعة الفطور، أهتدي الى موجوداته بالفطنة واللمس،
لكنَّ ذلك لا يتم إلا بعد جولةٍ صغيرة، أهَبُ فيها مخلوقاتي الداجنة(دجاج وإوز وبط وحمام) طعامها، أشعر بعدم الرضا عني، إنْ آثرتُ تقدّم فطوري على إطعامها، ومثل شيخ، فلّاح، أمسكُ بمنجل ورثته عن أخي الاكبر، أتفادى به ما يعترضني من السعف. كان الاهلُ يتقون به ثعلباً، ثعباناً، خنزيراً.. تاخذني قدماي الى مخلوقاتي الصغيرة، التي غرستها (فسائل، اشجار، زهور، خضار) أتفقدها، فهي الأخرى لها نصيبٌ من رحلة الساعات الاولى، وهو دأبُ من تجاوز السبعينَ بألمٍ في العنق وعينين كليلتين.
بعد التاسعة صباحاً أكون قد أتممت فروض المطبخ والمخلوقات تلك، فأدخل مكتبي، أنا أكتب يومياً، أو لأقل تقريباً، وللمُكث الطويل في غرفة الكتابة طقوس اعتدتها، فأنا أحلقُ ذقني يومياً، أو بين اليوم والآخر، في أقل تقدير، وأغرمُ برشة ماء القولونيا (البومبيا) وخصلة غير مرتبة في رأسي تنغصُّ عليَّ طقس الكتابة، رائحة ما بجسدي تمنعني من قول شيئً جدير بالقراءة. هناك مرآة معلقة في جهة ما من المكتب، يطالعني وجهي فيها، أو الجأ اليها لجسِّ نبض السعادة، والملل، والغرور أحياناً، تدعوني لقول شيء ما، أو لكتابة أريدها، وهناك علبة مرطِّب جلدٍ، بعطر خفيف، استعملها لتلطيف أصابعي على الكيبورد، وأسوأ ما يجعلني غير قادر على أيِّ من أفعال القراءة والكتابة اظافري إن طالت قليلاً، أما شجيرة الظلِّ الصغيرة على الطاولة فتمنحني مطاولة أكثر.
مع أنَّ الكتابة عندي مشروع شعريٌّ بالدرجة الاساس إلا أنها جزءٌ من متممات العيش، فما اتقاضاه متقاعداً لا يتكفل بي محتاجاً، وهي(الكتابة) ممارسة أحبّها. أنْ تخلد الى ذاتك الساعاتِ الطوال وتذهب مع روحك الى الاقاصي، فرداً، مستوحِداً، مستوحِشَ ما يدور من حولك، مأخوذا بما تهوى، وتنشغل به فذلك شيءٌ لا يعرفه إلا من تُرك متعفناً على رمضاء الجماعة. أمس، حين جاءت الريحُ الشرقيّة بالبحر ماطراً خلف النافذة اسرعت أشرعُ ضلفة النافذة الثانية، ولمّا عظُمَ شأنُها أشرعتُ ضلفتها الثالثة، فتوغل المطر بحبات الهواء عميقاً، قلتُ له: تعال، واعبث بما تناسق، واستتب، وضمُر من القول والكتابة، لأنت والله خير الزائرين، وأخفّهم على القلب.
يُخطئُ من يعتقد بأنَّ الكتابة فعل من أفعال الترويح عن النفس، والمفاخرة، وتدبيج الخُطب، واستعراضُ العلم بالعناوين، هي اكتشافٌ يوميٌّ، لا لأنني قرأتُ كلَّ ما في المكتبة، أبداً، فما أنا ممن يفاخرون بما قرءوا، وقد لا أمتلك نصف ما يمتلك أقراني من الكتب، لكن، يتوجب عليَّ أن أحسب أنفاسَ عشرات الكتاب والشعراء الكبار القابعين صُمتاً في الارفف، الذين لن ينظروا لمولاهم بعين الرضا. تكتب فرجينيا وولف: "الانسانُ المتعلم هو الطَموحُ، كثيرُ الجلوس، رهينُ العزلة المركزة، الذي ينقّبُ في الكتب، لكي يطلع ببعضِ حصيدٍ من الحقيقةِ التي من أجلها نذرَ نفسه".
الجلوسُ والاصغاءُ والقراءةُ والكتابةُ تمنح الانسانَ حياةً غير مكتوبةٍ في القراطيس الربانيّة، تجعله كثيرَ الصمت والخشوع، وتعلمه فنَّ استماع الآخر، تخلصهُ من الكِبر والمباهاة، وهي دليله الى اليقين، الذي يتجاوزه الآخرون الى النفاق. سئمتُ وانا أبحثُ عن خاتمة للمادة هذه، فخرجتُ استروحُ بعضَ نسيماتِ الارض، التي أغرقها مطر البارحة، هناك رائحة غريبة يتفتقُ عنها الاديمُ السماويُّ، أنا ممن يحبّون روائح الارض بعد المطر، كثيرون يعتقدون بخرافة مثل هذه، مع أنني من مؤكيدها، نعم، لا أحسنُ رسمها على الورق، ولن يمكّنني الصوغُ الحروفيُّ من جعلها محسوسةً، تعوزني أداتي، فهي قاصرة أبداً عن سبر غور ما ظلَّ رهين المطر والرياح.
هل كتبتُ ما أردتُ؟ لا والله، إذْ كل ما قرأناه وكتبه الاولون والآخرون سيظل فقيراً، مِعْوَزاً الى لحظة خالدةٍ صادقة، هي اللحظة التي ستبقى عائمةً في الاثير العاجز عن حملها، بانتظار من ينتزعُها من أفقِ المُتخيّل الابديّ، ذاك الذي أنذرُ أنفاسي لالتقاطه ما حييت.