اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > متى نعجز عن فهم العالم؟؟ .. العبقرية والاضطراب الذهاني

متى نعجز عن فهم العالم؟؟ .. العبقرية والاضطراب الذهاني

نشر في: 12 مارس, 2024: 10:48 م

لطفية الدليمي

هل يمكن أن نتصوّر رواية لاتنطوي على معرفة؟ يبدو الامر تناقضاً خالصاً. حتى لو كانت الرواية سلسلة من وقائع محدّدة (على افتراض إمكانية وجود رواية وقائعية صرفة من غير سلسلة حكائية) فستكون رواية ناقلة للمعرفة.

لو كانت الوقائع مرتبطة بسلسلة سببية خطية فهذه السببية هي خبرة منتجة وبالتالي هي معرفة؛ أمّا إذا كانت الوقائع غير مترابطة سببياً فستدفعنا للتفكّر في الامر: سنتصوّر – مثلاً – أنّ الروائي يبتغي القول - ولو بكيفية مضمرة – أنّ الشخصية الروائية ربما تعاني إختلالاً ذهانياً. خلاصة القول أنّ الرواية وسيط صانعٌ للمعرفة، والتقنيات الروائية تسعى في بعض أهدافها لجعل السرد الروائي صالحاً وقادراً لتمرير المعرفة إلى القارئ.

هل يمكن القول أنّ كلّ رواية هي رواية معرفية بالضرورة؟ نعم كمبدأ؛ لكنّ التوصيف الاجرائي الدقيق أنّ الرواية المعرفية تصفُ نمطاً خاصاً من الروايات المكتنزة بالمعرفة، وفيها لن يكون عسيراً على القارئ منذ البدايات الاولى أن يكتشف رغبة الروائي الملحّة في تمرير معرفة محدّدة إلى القارئ، وأنّ التقنيات الروائية ليست سوى غطاء مقبول لصناعة هذه الرواية. يستلزمُ هذا النمط الروائي كاتباً شغوفاً بالمعرفة (بتاريخ وفلسفة وابستمولوجيا المعرفة لو شئنا الدقّة). الامثلة كثيرة في ميدان الرواية المعرفية، وعلينا أن نتوقّع ميلاً مستزيداً لدى الكُتّاب لتجريب هذا النمط الروائي، ولعلّ التفجّر المعلوماتي المعاصر بات هو العنصر الدافع لشيوع هذه الرواية: المواد الاولية (المعلومات الموسوعية) صارت متاحة ومجانية، وضرورة امتلاك معرفة معقولة بالتقنيات التي تشكّلُ معالم عصرنا صارت تفرضُ سطوتها على البشر. لن نتوقّع بالطبع أن يمتلك جميع البشر معرفة تقنية بالخوارزميات أو الذكاء الاصطناعي أو ميكانيك الكم أو الشبكات الحاسوبية؛ لذا ستكون المقاربة المعقولة والمتاحة هي تمرير هذه المعرفة في قالب روائي يبعث على التشويق والمتعة وتحفيز الاستمرارية والمتابعة. المعرفة العلمية صارت عنوان عصرنا؛ وبالتالي ستكون معرفة الاوليات التقنية جزءاً من الستراتيجيات الناعمة لأية دولة معاصرة تسعى ليكون لها شأن على الصعيد العالمي. ثمّة أمر آخر شديد الاهمية للرواية المعرفية / العلمية وهو أنسنة العلم: نحنُ، وبسبب التقاليد المدرسية المعلّبة والجاهزة، غالباً مانرى العلماء وكأنّهم كائنات أسطورية مصنوعة من مادة غير بشرية، أو بعبارة أخرى: نتخيلهم عقولاً حاسوبية من غير قلوب خافقة، أجساد بغير أرواح. أحد أهداف الرواية المعرفية / العلمية هو تعرية حياة هؤلاء العلماء والكشف عنها في مسرّاتها وإخفاقاتها، أفراحها وكآباتها، أمجادها وأباطيلها. الرسالة المضمرة واضحة للقارئ: إذا كان هؤلاء قد صنعوا ماصنعوا من أفاعيل باهرة في ميدان العلم رغم كلّ المعاناة التي هي جزء وثيق بكلّ حياة بشرية؛ فلِمَ لاتكون أنت واحداً ممّن يخلفونهم ويكملون مسيرتهم؟

لمع مؤخراً إسمُ الروائي التشيلي بنجامين لاباتوت Benjamin Labatut كأحد أهمّ صانعي الرواية المعرفية في نطاق تاريخ العلم وشخوصه. وصلت روايته (أو الاصح رواية قصيرة مع أربع قصص) المسمّاة حين نعجزُ عن فهم العالم When We cease to Understand the World إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العالمية عام 2021. توجد ترجمة عربية لهذه النوفيلا مع القصص، وهذا من الامور المحمودة إذ قلّما نرى دار نشر تجتهد في ترجمة نمط روائي مثل هذا. ليس سرّاً أنّ الرواية المعرفية هي رواية نخبوية وليست جائزة جماهيرية مجانية ميسّرة المنال.

يسعى لاباتوت في أعماله لاستكشاف تلك المنطقة البينية المتاخمة لحافات العبقرية مع الاضطراب الذهاني، وسيلمس القارئ براعة وحذقاً في تشبيك الوقائع مع السياق الروائي. سنقرأ في أحد الفصول الخمسة من الكتاب عن عالم الكيمياء الالماني فريتز هابر وهو من قاد الفريق البحثي الالماني الذي نجح في تصنيع الغاز السام بواسطة الكلور، ولم يتوانَ الالمان عن استخدامه بكثافة ووحشية لقتل الملايين من جنود الحلفاء في خنادقهم خلال الحرب العالمية الاولى. الغريب أنّ فريتز ذاته وبعد نهاية الحرب هو من نجح في تخليق طريقة عبقرية وتجارية سهلة لتصنيع الامونيا بكميات وفيرة، وعند تفاعل الامونيا مع النايتروجين حصلنا على سماد السوبر فوسفات الذي أنقذ البشرية من مجاعة مؤكّدة. فريتز هو مثال لتداخل الخير والشر في الروح البشرية؛ لكنّ ثمن هذا التداخل كان باهظاً عليه؛ فقد قُتِل إبنه في الحرب، ووضعت زوجته حداً لحياتها بسبب تأنيب ضميرها. كلّ هذه التفاصيل نقرأ عنها في سياق روائي أخّاذ يتفوّق لاباتوت فيه.

لابأس أن نقرأ مقطعاً من كتابات لاباتوت حتى نتحسس كيف تتداخل الواقعة مع التفصيلة العلمية:

" كان بستاني الليل عالم رياضيات؛ لذا جعل يحدثني عن الرياضيات بمزيج من النهم والرهبة في الوقت نفسه. أخبرني أنه كان في الماضي على أعتاب بداية طريق مبهر؛ لكنه تخلى تماماً عنه بعد علمه بما قدّمه ألكسندر غروتينديك، العالم العبقري في حقبة الستينيات. إستطاع غروتينديك أن يطوّر الهندسة الرياضية تطويراً لم يحققه أحد منذ ظهور إقليدس، عالم الرياضيات اليوناني الملقب بأبي الهندسة؛ ولكنه فيما بعد جحد تماماً علم الرياضيات وهجره بلا رجعة ومن دون أي تفسير وهو في الأربعينيات من العمر، في أوج شهرته العالمية، ليترك للعالم إرثاً علمياً فريداً يحيُّر العقول ما زالت أصداء أثره تتردد حتى الآن... "

تداخُلُ المأساة والملهاة، الخير والشر، الفجيعة مع الانجاز المبهر: هذه بعض سمات روايات لاباتوت.

يواصل لاباتوت مساعيه الروائية المعرفية؛ فيعودُ مع أواخر عام 2023 لينشر كتاباً (أو رواية) أكثر دسامة وتفصيلاً وتنوّعاً في الموضوعات والشخوص، إختار له عنواناً بالانكليزية The Maniac. العنوان بذاته إشكالية مفاهيمية وترجمية بسب تعقّد واشتباك الاحالة الدلالية لمفردة Maniac. ربما مفردة (العبقري) هي الاقرب للترجمة العربية؛ لكنّ التأصيل الاكثر دقة هو العبقري الذي يعاني اضطراباً ذهانياً تمشياً مع سياق الاضطراب المسمّى الذهان الهوسي الاكتئابي Manic – Depressive Psychosis. لاأحسبُ أنّ لاباتوت إختار هذا العنوان جزافاً؛ وكأنّه يريدُ القول من وراء إختياره أنّ كلّ عبقري إنّما تتمازجُ حياته بلمسة من الهوس مع مسحة إكتئابية. ربما هذا هو بعضُ ثمن العبقرية الذي لامفرّ منه.

الشخصية الرئيسية الرابطة لمعظم فصول هذا الكتاب / الرواية هو العالم الهنغاري – الامريكي جون فون نيومان John von Neumann الذي يوصف بأنّه كائن غير بشري من حيث قدراته العقلية والاحتسابية. تكتب زوجته (كلارا) في مقدّمة أحد كتبه التي نشرت عقب وفاته عام 1957 بسرطان العظام " إنّ جوني كان يحسب كلّ شيء باستثناء عدد السعرات الحرارية التي يتناولها!! ". هي تشيرُ لبدانته بالطبع. كان مهووساً بالسيارات والطعام والحياة المرفّهة، ويصعبُ على المرء أن يتخيّل كيف استطاع رجل بمفرده في حياة قصيرة لم تتجاوز أربعاً وخمسين سنة أن يحقق كلّ تلك الانجازات. سأكتفي هنا بذكر بعض أسماء الشخوص التي كتب عنها لاباتوت حكايات مثيرة في روايته الاخيرة: بول اهرنفست، يوجين فيغنر، نيكولاس أو غستوس، جورج بوليا، ثيودور فون كارمان، ريتشارد فاينمان، اوسكار مورغنشترن، جوليان بيغلو،،،،.

يأسرُني هذا النوع من الروايات التي أتمنّى أن تلقى رواجاً وترجمة عربية مكثّفة بعد تعزيز الذائقة العربية لها. المعرفة قوة في نهاية الامر، وليس كمثل الروايات المعرفية مايستطيعُ ترسيخ مقوّمات قوّة المعرفة وامكانياتها الفائقة في الارتقاء ببيئتنا العربية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. Anonymous

    تحية للكاتبة المبدعة لطفية الدليمي،،انا من متابعي نتاجاتها منذ اكثر من عقدين،،أرى أن من واجبي توضيح ان سماد السوبر فوسفات هو من ليس من خلط غاز الكلور والامونيا،، بل من عملية مختلفة تماما، مادتها الأولية الرئيسية هي صخور الفوسفات، تحياتي

يحدث الآن

وزير الداخلية في الفلوجة للإشراف على نقل المسؤولية الأمنية من الدفاع

أسعار الصرف في بغداد.. سجلت ارتفاعا

إغلاق صالتين للقمار والقبض على ثلاثة متهمين في بغداد

التخطيط تعلن قرب إطلاق العمل بخطة التنمية 2024-2028

طقس العراق صحو مع ارتفاع بدرجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram