حيدر المحسن
ظهر مقال "في بيت روح الله" في صحيفة القدس العربي بتاريخ 18 ديسمبر - 2023، وبلغتني منذ ذلك التاريخ رسائل تتفاوت بين المدح والذّم، وهناك من كتب إلى الصحيفة يعاتب هيئة تحريرها على نشر المقال، وفهم الجميع فيما يبدو أني أقوم بنوع من الإشهار والترويج لما قام به الخميني في حياته؛ قيادة الثورة الإيرانيّة وإسقاط نظام الشاه وتأسيس ولاية الفقيه... إلى آخره من الجوانب السياسيّة التي أثّرت بصورة مصيريّة في تاريخ إيران والعراق، والمنطقة العربيّة والإسلاميّة عموما.
لم أقصد إلى هذه الغاية من وراء كلامي، أولا لأني لست مؤرخا أو محلّلا في أمور السياسة، إذا دخل الأديب في بلداننا صفّ السياسة أضرّ نفسه كثيرا، ولا يفيد من أفكاره أحد. ثانيا لأن الراحل بلغ من الشهرة التاريخيّة درجة أن لا تضيف إليه مقالة من كاتب مغمور في بلاده البعيدة عن العالم، وما قمتُ به في الحقيقة هو محاولة دراسة تأثير تفاصيل البيت وموقعه في المدينة في تفكير المرء، ربما كان المقال بداية لمجال بحثيّ يقوم بتطويره كتّاب آخرون، أو صارت لي الفرصة للتفرّغ إليه بغية توسيعه والتوصّل إلى نتائج.
وأنا أسير في زقاق قريب من سوق الكتب الرئيسي في مدينة النجف، واجهتُ لافتة خشبيّة صغيرة تعترض السائر مكتوب عليها بالأسود: "بيت | الامام الخميني (قدس سرّه) | (النجف الاشرف)"، وفي اللافتة خطئين إملائيّين لم تلتزم صحيفة القدس بتثبيتهما، إذ قام المحرّر في نوع من الالتزام بالمهنيّة بتصحيحه، وأبيّنه هنا لأن لافتةَ المنزل جزءٌ منه. كان العثور على البيت مفاجأة لي، وقطعتُ مباشرة المشوار الذي كنتُ فيه، وقرّرت، بكثير من الحماس، زيارته.
فحصتُ المنزل ركنا ركنا وجدارا جدارا وسقفا سقفا، وقِستُ أبعاد كلّ غرفة ونافذة وممشى وباب، وصعدتُ درجا ونزلتُ درجين، وثبّتُ كلّ هذا في ذهني وفي مخزن صور هاتفي. بعد حوالي شهرين زرتُ المكان ثانية، وتأكّدت من نتائج عملي الأولى.
أخذت منّي كتابة المقال أكثر من ستّة شهور، قرأتُ فيها مصادر عن المكان وفلسفته وتأثيره في حياة ساكنيه. هل يموت المبنى عندما يغادره ناسُهُ، ويعمّه السكون والصمت؟ البيت الذي نسكنه يسكننا، ونألفه ونصير قطعةً منه. يفنى الزمان في كلّ لحظة، والساعة الدقّاقة هي مقبرة الثواني، ويتقلّب المكان عبر العصور ولا تندثر حياة الإنسان فيه. هناك تفاصيل ودقائق غير مرئيّة تبقى ثابتة، يدعوها باشلار "العمق الشعريّ للمكان"، وكنتُ أحاول الدنوّ من هذا العمق أكثر في بيت روح الله.
شرحتُ خارطة المنزل في المقال المذكور، وفي أثناء إعدادي له قمتُ بتصوير صفحات كتب الأدعية التي عثرتُ عليها في المكتبة من أجل دراستها، لكني نحّيتُ الفكرة لأن هذه المؤلفات لا تحمل بصمة الإمام، فهي من وضع اللجنة التي تدير شؤون المنزل في الوقت الحاضر، وعثرتُ كذلك على دليل سياحيّ باللغة الفارسيّة، طلبتُ من صديق ترجمته إلى العربيّة، لكني لم أضع شيئا منه في البحث.
كانت غايتي إعطاء القارئ فكرة عن روح البيت وجسده، أو "ميتافيزاقياه الكاملة في الوعي واللاوعي" بتعبير أهل العلم، وكيف تكون الحياة فيه في النهار والليل. بدون صورة البيت كاملة نصبح كائنات مفتّتة، فهو يجمع أجزاء رسمَ الواحد منّا وهو نائم وقاعد وجالس وسائر في أرجائه، وهي أفعال تختلف فيها هيئاتنا بين الواحد والآخر. عندما تجمّعت لديّ موادّ العمل شرعتُ في صنع نظرة تحليليّة للسَكَن الذي انتظمت وترسّخت فيه حياة الخميني وعائلته بين عامي 1965 وحتى نهاية 1978، حيث غادر إلى باريس.