طالب عبد العزيز
نحن نكتب ولا أحدَ يقرأ، فأمرنا لم يعد يحظى بعناية أحدٍ، نحن في وادٍ والدولة في وادٍ آخر. قبل أيام استطاع أحدُهم دخول بيت أسرة آل باش اعيان العباسية، في البصرة القديمة، البيت الذي كان قبلة كبار الولاة والامراء والملوك القادمين من اسطنبول وبغداد،
والذي كان الطريق الى بابه يفرشُ بالسجاد الاحمر ويصطف الحراس باسلحتهم، وتقام الولائم الفاخرة داخل أبهائه وغرفاته، وتعقد المؤتمراتُ الكبيرة، وتتخذُ على مقاعده وطاولاته كبريات القرارات في السياسة واللغة والادب والتواريخ.. يستعصى دخوله اليوم، لا بسبب هجرة الأُسرَة الى الخارج، وتفرقهم في الامصار إنما لأنَّ أحداً ما لم يعد يوليه حقه في الرعاية والاهتمام.
منذ أكثر من نصف قرن والحديث يجري عنه، عشرات التوصيات الرسمية تحدثت عن وجوب العناية به، وكتبت عنه مئات المواد الصحفية والبحثية والمكان كما هو، تنتفخ جدرانه بسبب الرطوبة، وتتداعى سقوفه، وتحاصره العربات والاكشاك القذرة، ويطوق بابه أصحابُ البسطات ببضائعهم الوضيعة، وتطفح شبكة المجاري حوله. المكان الموصوف بالكنز المعرفي منذ خمسين سنة ويزيد يقارع خلوده بأهمال المسؤولين، الذين لم يأخذ أحدٌ بأيدي أعضاء منظمة اليونسكو اليه. المنظمة التي أعادت ترميم بعض البيوت التراثية في محلة نظران مدعوة الى ذلك.
من حقِّ المواطن أن ينعم بالخدمات والرعاية الصحية والتعليمية. .وو لكنْ من حقه ايضاً أن يرى معالم مدينته الاثرية تحظى برعاية المسؤولين فيها، كلنا يعلم بأنَّ أرباحاً خيالية تجنيها الشركات التي تعمل في الطرق والجسور وشبكات الصرف وغيرها، وهناك أرقام فلكية من الدولارات تتطاير في البنوك والمصارف، داخل وخارج العراق لكنْ أينها من حفظ الاثر والتراث والفلكلور؟ ولماذا لا يصار الى إلزام الشركات هذه بتخصيص نسبٍ، وإن كانت سنتات قليلة من أرباحها لترميم وإصلاح المباني تلك، التي تتداعى في الزمن.
ليست البصرة مدينة بواجهة واحدة، هي امتداد واسع بين الرمل والماء، وهي غابة النخل وبئر البترول، وهي تقلبات الانسان في التاريخ، ومنقلب الزمان في الانسان، من يريدها حاضرة عامرة عليه أنْ يبحث عنها أثراً وتاريخاً. هي المدينة الوحيدة التي لها من التشيع طوائف ثلاث، وفيها من طوائف السنة أربع، ولها نصيب مثل هذه وتلك في المسيحية، وغير ذلك من الصابئة والارمن والكرد والتركمان والفرس ومن هاجر اليها من أقطار الدنيا، وترك شيئاً من ثقافته فيها، أو أثّرَ في حياة ابنائها. على صعيدها قامت أماراتٌ وإمارات، وتأسست فرق، وملل، ونِحلٌ وجماعات وكلهم جدير بانتباهة الحكومة.
وهو يلتقي أحد وجهاء طائفة الارمن(خاجيك وارتانيان) يقول الباحث د. سعد سلوم: " تحتاج البصرة الى جيوش من المتطوعين والمبادرات الحكومية والمدنية لحماية "تراثاتها" المعرَّضة للزوال. وهذه كلمة باحث شغله الشاغل حديث الاقليات والمكونات الاجتماعية، هل نسينا داعية حقوق الانسان وحقوق ذوي البشرة السوداء، المناضل جلال ذياب، الذي اغتيل عام 2013 والذي لقب بمارتن لوثر كنك العراق؟ وماذا عن أبناء الطائفة البهائية التي يخشى ما ظل من أفرادها الاعلان عن انفسهم، وماذا عن الاقوام والطوائف والشخصيات التي دمغت ببصمتها تاريخ وروح المدينة، والتي لولاهم لما كانت البصرة على ماكانت عليه من سمعة مفارقة بين المدن.
كل حجارة تسقط من مبنى تراثي هي من مسؤولية الدولة، وكل مضطر من سكان الأقليات وسواهم الى الهجرة تتحمل الدولة وزر هجرته، وكل قرية وناحية تغير ديموغرافيتها وطبيعتها الجغرافية تدمير لهوية المدينة وكل صوت يعلو فوق صوت المواطنة إمعان في البحث عن ضغينة قادمة.