TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناديل: جمالياتٌ تقودنا إلى مكامن السحر

قناديل: جمالياتٌ تقودنا إلى مكامن السحر

نشر في: 16 مارس, 2024: 10:51 م

 لطفية الدليمي

اللغة العربية ميدانُ سحرٍ وافتتان لن يغفله أو يتغافله كلّ دارس حقيقي لها. الغفلة غير ممكنة مع اللغة العربية. ستأسرك مكامنُ الدهشة فيها مهما حاولت التفلّت منها. يكفي أن نتذكّر أفلام الكارتون المدبلجة إلى العربية، أو المعلّقين الذين يتحدّثون بالعربية على أفلام وثائقية أو سواها.

كم أسَرَنا هؤلاء بصفاء لغتهم والضبط القواعدي في أدائهم وجمال ملفوظاتهم التي يفتقدها الكثير من مُتحدّثي العربية الاصلاء. يحقّ لنا السؤال - بل هو واجب ثقافي وتعليمي-: لماذا أتقن هؤلاء العربية قواعد وأداءً جميلاً؛ في حين يعجز أغلبنا عن فعل ما يفعلون أو بعض ما يفعلون في الاقل؟ هذا سؤال فكّرتُ فيه كثيراً، وهو سؤال حاضر كحقيقة واقعة تلحّ عليّ كلّما شاهدتُ عربية منطوقة بأداء جميل متقن على لسان غير العرب.

السبب الاوّل في هذا يرجعُ لديّ إلى تغليبنا القواعد الجامدة على جماليات الاداء. نحنُ نغيّبُ الجماليات لصالح قوائم من التعليمات النحوية في سياق تعليم سقيم يلغي الصورة المتكاملة بقصد إبراز مقاطع مجتزئة منها. لكي أوضّح الفكرة دعوني أتساءل: كم من طلبتنا خريجي الدراسة الاعدادية ممّن حازوا درجات عالية في اللغة العربية قرأ نصاً عربياً رفيعاً واستطاب جمالياته اللغوية (كتابات التوحيدي مثلاً أو الجاحظ أو أخوان الصفا أو الفلاسفة العرب أو مقامات الهمداني،،،). أظنّ لو نظّمنا إختباراً لفحص هذه الخصيصة (إستطابة المادة المقروءة والتلذذ بقيمتها الفكرية وجمالياتها اللغوية) فسننتهي إلى خيبة كبرى.

طريقة التعليم المدرسية (البيداغوجية) السقيمة هي المسؤول الاول في إشاعة هذا القبح اللغوي الشائع. طريقة التعليم هذه عندما تجتزئ جُمَلاً من نصوص أو أشعار تراثية أو آيات قرآنية لمجرّد تعقيدها وانطوائها على مستغلقات نحوية فإنها تعمل على إخماد الحس الجمالي في المرء لصالح تعزيز حفظ قواعد مستظهرة. هذه جريمة حقيقية بحق اللغة العربية. سيحفظ الطالب هذه القواعد ويطبقها حرفياً لصالح كسب درجات، ثمّ بعد هذا ينسى كلّ شيء.

لو أنّ المرء أعمل ذائقته الجمالية غير الملوّثة فأظنّه لن يجانب القواعد النحوية القياسية إلّا في حدود بسيطة. أنا لا أقول بإهمال تدريس القواعد؛ لكني أقول بتدريس القواعد الميسّرة وعدم تحويلها إلى ميدان مباراة وعرض لكلّ قاعدة نادرة شاذة مدعومة بنصّ تراثي أو آية قرآنية؛ وكأنّ القواعد هي ميدان كلّ نادر وشاذ وليست إرتكاناً إلى حسّ جمالي.

ثمّة أمر آخر: ما الذي يقتلُ جماليات اللغة غير التعليم السقيم؟ إنه الايديولوجيا بكلّ تلاوينها. كلُّ فكر مؤدلجٍ سيعملُ بقصد مسبّق على جرّ عنق اللغة نحو النصوص التي تؤكّدُ رؤيته الايديولوجية، وهو في هذا يكون كمن يجعل اللغة قرباناً يضحّي به لأجل مسعاه الآيديولوجي. لستُ هنا في موضع إيراد أمثلة من تاريخنا الثقافي لتأكيد هذه الحقيقة. الضحية هي اللغة. البعض لايحبّون الجاحظ ويضعونه في توصيف آيديولوجي محدّد، وكذا الامر مع أخوان الصفا أو المعتزلة أو بعض الفلاسفة. إلامَ سينتهي بنا هذا المقصّ الأيديولوجي؟ سيُحْذَفُ كلّ هؤلاء من قائمة المقروءات المتاحة وبخاصة للشباب وطلبة المدارس، والنتيجة ستكون بالتأكيد فقراً لغوياً هو بعضُ نتائج القسر الآيديولوجي الذي يقدّمُ فكره الضيق على الممكنات اللانهائية للغة.

جماليات اللغة لاتقتصرُ على الأداء وسلامة القواعد؛ بل يتعدّى الامر إلى كيفية التشكيل الحروفي. سأعطيكم مثالاً: شاعت قبل بضع سنوات عادةُ رسم التنوين على الحرف السابق لأواخر الكلمات. كلمة (مثالاً) في العبارة السابقة صار البعض يكتبها هكذا (مثالًا). بعيداً عن التخريجات التي قد يأتي بها بعضُ مناطقة اللغة أو فلاسفتها العتيدون (والتي أحسبها متهافتة) أتوجّه إليكم بالسؤال التالي: أيهما تجدونه أجمل رسماً (مثالاً) أم (مثالًا)؟ أرى الاولى متوازنة راكزة؛ في حين أرى الثانية وكأنّها مُقْسَرَةٌ حدّ الاشتطاط والتعسّف في طريقة كتابة التنوين. ثمّ هناك الغرض الوظيفي الذي يجب أن نحسب حسابه. اللغة هنا مثل العمارة: الشكل يتبع الوظيفة Form Follows Function. كتابة التنوين على اللام أشقُّ وأعقد في الاداء الوظيفي من كتابة التنوين على الالف.

لو إتبعنا حدسنا النحوي المنقاد بذائقتنا الجمالية قبل الارتكان إلى قوائم النحو المدرسي لكان بوسعنا تعديلُ الكثير من القبح اللغوي الشائع، ولرفعنا بعض الحيف العالق بلغتنا العربية المصنوعة من سحر وجمال فاتنيْن، ولكنّا إقتربنا بعض الشيء من هؤلاء الذين ينطقون بلغة عربية هي السحر الحلال الذي يجترحه لسانٌ غير عربي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

تعطيل الدوام غداً في ذكرى النصر على داعش

الخطوط العراقية: 1523 رحلة و214 ألف مسافر خلال تشرين الثاني

العدل: تأهيل 3000 حدث خلال عامين وتحديث مناهج التدريب وفق سوق العمل

إيران تكشف لغمًا جوّيًا يصطاد الطائرات المسيّرة من السماء

هيئة الرصد تسجل 8 هزات أرضية في العراق والمناطق المجاورة خلال أسبوع

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

العمود الثامن: عاد نجم الجبوري .. استبعد نجم الجبوري !!

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

 علي حسين في السبعينيات سحرنا صوت مطرب ضرير اسمه الشيخ امام يغني قصائد شاعر العامية المصري احمد فؤاد نجم ولازالت هذه الاغاني تشكل جزءا من الذاكرة الوطنية للمثقفين العرب، كما أنها تعد وثيقة...
علي حسين

زيارة البابا لتركيا: مكاسب أردوغان السياسية وفرص العراق الضائعة

سعد سلوم بدأ البابا ليو الرابع عشر أول رحلة خارجية له منذ انتخابه بزيارة تركيا، في خطوة رمزية ودبلوماسية تهدف إلى تعزيز الحوار بين المسلمين والمسيحيين، وتعزيز التعاون مع الطوائف المسيحية المختلفة. جاءت الزيارة...
سعد سلّوم

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

احمد حسن تجربة الحكم في العراق ما بعد عام 2003 صارت تتكشف يوميا مأساة انتقال نموذج مؤسسات الدولة التي كانت تتغذى على فكرة العمومية والتشاركية ومركزية الخدمات إلى كيان سياسي هزيل وضيف يتماهى مع...
احمد حسن

الموسيقى والغناء… ذاكرة الشعوب وصوت تطوّرها

عصام الياسري تُعدّ الموسيقى واحدة من أقدم اللغات التي ابتكرها الإنسان للتعبير عن ذاته وعن الجماعة التي ينتمي إليها. فمنذ فجر التاريخ، كانت الإيقاعات الأولى تصاحب طقوس الحياة: في العمل، في الاحتفالات، في الحروب،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram