اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > دمعة وراء القناع الذهبي .. المسرح- الفن للارتقاء بحياتنا

دمعة وراء القناع الذهبي .. المسرح- الفن للارتقاء بحياتنا

نشر في: 19 مارس, 2024: 11:03 م

لطفية الدليمي

النادل الآسيوي في بيت الشاي يقدم لي شايًا سريلانكيًا مصنّعًا في بريطانيا، الشاي بأحمرالياقوت يتألق في قدح ياباني الصنع مزين بنقشة خيزران وقصيدة حب، ينحني النادل مع ابتسامة فرنسية مهنية وزائفة جدًا مصحوبة بلكنة باريسية تحوّلُ حرف الراء إلى غين:

- بونجوغ مدام

أردُّ عليه بكلمة امتنان مشرقية، ملامحه جامدة بلا تعبير، أندهشُ من براعة هذا الآسيوي التابع في التنكر بجلد فرنسي، لحظة عولمية جمعت أحوالًا وثقافات شتى في قدح شاي. العولمة مسخت كل سمة محلية أو قومية للوجوه والعادات في مدن الارض.

يدهشُني تنكّرُ بعض البشر في غير جلودهم بقدر ما يقدّم لي إشارة تحذير من جميع المتنكرين لأصولهم والذائبين في وهْمٍ عولمي، لعبة ممجوجة من جانب وممتعة كالسحر من جهة أخرى: أن تتراءى لك وجوه تغاير ما يخفيه القناع المستعار، الوجوه الخفية تعلن براعة التماهي وقدرة البشر على تقمص حالات مختلفة لمراوغة حقيقتهم وأصولهم وانتماءاتهم.

بين حزني والغزاة تحتضر بغداد الذهبية، ومن نفائسها ينهمر الدم والمسك وتعلو ضربات السياط وتُنصبُ المشانق ويتضافر صوت المؤذن مع غناء الجواري و تختلط صيحات اللقالق بشبهات الحب، وتتبدّدُ أنوثة الجغرافيا وتضاريسها إزاء فحولة التاريخ الضارية ووحشية الغزاة، المدن العباسية والغزوات الممتدة شرقًا وغربًا موسومةٌ بالزعفران والدم على رقّ غزال، تحتل ذاكرتي وأنا أجوب المدن الكبيرة، أحاول مغادرتها، أمحو تفاصيلها بمطر شارع (سانت ميشيل) الذي يغمرني بالسكينة والأسى. أهبط سُلّمًا إلى محطة المترو باتجاه مسرح صغير، تنتظرني على الناصية صديقتي الرسامة كاترين التي اقترحت مشاهدة عرض مسرح الأقنعة.

مسرح الكابوكي والطقوس الافريقية

مسرح القناع مزيج بين مسرح (الكابوكي) الياباني والطقوس الافريقية، نقتحم غابة الأقنعة من غير تمائم ولا تعويذات. إنها الغابة حقًا، غابة المدن العولمية، فيها كل ماللغابة والطبيعة الغامضة من توحش وأسرار، وفيها المقايضات والصيادون والفخاخ والفرائس.

أتخيلني في غابة حقيقية: تمسح الأيائل خطومها على يدي وتداعب السناجب قدمي ويرتمي أرنب صغير على خطوتي. أنتشي بالطبيعة التي تغتصبها حضارةُ العنف وعابدو المال واللهو في مدن الغواية.

يفتح حاجب بملابس مزركشة بابًا ضخمًا وتتلقفنا بوابةُ المسرح الدوارة فأجدني في القاعة شبيهة العالم بشرقه وغربه ومجاهله وتناقضاته. هنا العالم، هنا ما لايمكن مغادرته. لا أرى سوى حشود أقنعة تموج بألوانها تحت أضواء ثريات الكريستال العملاقة. تتركز الأقنعة في مجاميع على الخشبة في شبه عتمة بكماء.

مسرح القناع يمنح سعادة للممثلين وإسعادًا لمن يشاركهم التمتع بفنونهم، مسرح القناع يبصّرنا بحقيقة الإسعاد والسعادة كما يفعل الحب وتفعل الفلسفة، فنخلع على سادته إمتنان النفس بما سعدت وما قطفت من المتع وتنويعات السلوك البشري في إنزلاقه الى الخداع والمعنى المغاير والحالة المجاورة للألم.

إمتياز مسرح القناع أنه يدع المتفرج في جهل من حقيقة المؤدين، حسبنا ما يبوح به القناع والملامح المستعارة من تاريخ الفلسفات أو تاريخ القتل والمكائد أو تداعيات الأحلام والشهوات أو تشنجات اللذة أو توترات الألم، تمويه الأحوال يستبقي فتنة الغموض في النفس رغم ارتيابها بكل ما يأتي بعد نشوة التلقّي.

كل قناع يستبقي على السحنات وشومًا وعلامات من ظلال التوهـّم البصرَي ونثارًا من أنوثة تواشجت مع رجولة المؤدين المولعين بالمتع: تلاوين مغوية وألق شغوف لا بداية له ولا نهاية، طريق التوحش المؤالف بين الذئب والبراءة وبين الغفلة والمكيدة.

العيون وحدها تبلور السر وتطلقه بعون من ضوء الكشافات، تلتقط الكاميرا صورة سريعة لعين الممثل الوسيم، العين التي تصحو في سكرها وتثمل في يقظة الاغواء وتفتتن بها إمرأة غارقة في ثياب موسلين وفراء يمازج تموجات شعرها الاشقر، تتابع العرض في إحدى المقصورات وتصحو حقولها على خفق حمائم في الجسد. النظرة الجوانية تتوضّع في اللقطة وتفضح ما ينطلي على الرائين المحايدين المتوغّلين في حبكة المشاهد وصعود الصراع.

لون النظرة يفضح سحر اللغة الهيامية والوله المثير وهذيانات الجسد المتلاحم مع أخيلة الجنون التي لا تراها سوى الشقراء المفتونة بما وراء القناع. النظرة تقنصها عينٌ مدرّبة كمرايا الساحرات، والذاكرة تخزن تلك النظرة الجحيمية المخبأة وراء غلالة اللغة الفاتنة، وتستعيدها مابعد خفوت سلطة القناع، تلك النظرة بؤرة الحكاية ومتن النص الموازي أو المتواري في حبكة الدراما.

...

إنتقال الممثل من مستوى للتعبير إلى مستوى آخر للتماهي يمنح المشاهد أمثولة أثمن من قصص الجنيات وحكايات الأباطرة وأساطير العشق ويختزل المسرحية في خلاصة تقول:

" الإنسان أقدر الكائنات على التحمل عندما يتقن تحاشي الصواعق بتوقعه لها ـ توقعاته وتوجّسه وحدوسه حُرّاسُ وعيه: لا مباغتة ولا اندهاش ".

مخرج المسرحية يبثُّ تعاليمه للممثل الأول:

" أتقن دورك للإفصاح عن المعنى، ولا تستهن بالخاتمة في ارتدادك للسكوت، النهايات خلاصة المسرحية وشحنتها المتفجرة، كن كالعاشق ولا تكُنْهُ، كن كالنذير ولا تكن الكارثة، كن كالولادة ولاتكن الجنين، كن كالأنوثة ولاتكن الأنثى، وكن الماء ولاتكن النهر، كن الشهوة ولا تكن الالم "

يهمهم الممثل تحت قناعه بشيء من الاعتراض، يواصل المخرج:

" كن معلّم نفسك بما خبرت وعرفت من المرأة والحب والسياسة والقتل والموت والهلع؛ فلا يكفي إدعاء الحب أو الحكمة أو النبل لتكون مقيمًا في الحب أو مالكًا لحكمة (لاوتزو) أو فارسًا من فرسان النبالة، الأقنعة لا تفي بخلاصة الحكاية، روّض خطابك ونبرتك لتعزز يقيننا بأنك النذير والولادة والأنوثة والماء والشهوة والمعرفة ".

يحذّره المخرج:

" الوهن البشري يجعل مآل الحكاية وادعاءها أشبه بعملية غش الترياق بالسم فلا تتعجلْ نزع القناع وتماسكْ، وأظهر إرادتك في نبرة الصوت ومخارج الحروف. كن الخطاب الشجي والمعنى المراوغ لتبعث الحيرة والزلزلة في المتلقي".

يتملك الممثلَ إحساسُ الناجي من مأزقه الوجودي، و هو إحساس زائف يتوازى مع النكوص وما يدعونه خيانة الذات لنفسها، قد يجد المرء فيها متعة فوز على الآخرين المتوائمين ظاهرًا وباطنًا على نقيض الممثل الجميل الذي يتوسل القناع ليكون الآخر دومًا.

يقول المخرج:

" احذف الثمل والخدر وتوسل الصحو لترى آيتك في الاخرين، شبهة الحب ومحنة الصداقة في المسرح هي ذاتها شبهة الحرب في الميدان مع روائح الموت. يتوهم المنتصر أنّه حظي بالفوز ونجا وأنّه ختم المعركة وترك الضحية ذاهلًا في الهزيمة؛ بينما هزيمة المنتصر الفادحة تعاشره وتغتذي على روحه وتدعه هيأة مفرغة من المعنى تحت توّهم الفوز وضلال الحكاية.

أنت لا تخسر شيئًا أيها الفنان حين يكون رصيدك محض لغة وفيض كلام يتصادى مابين أفول الصواب و تقدّم اللعبة، أنت لا تخسر سوى هشاشة القناع. لا رصيد لدى البشر رقيقي القلوب سوى خفتهم الأنيقة وعبورهم اللامرئي في الوقت وقدرتهم على التنكر في الألم؛ فكن المخالف للتوقعات وانجز الصدمة المسرحية ".

يكتب الناقد بعدئذ: دمعة وراء القناع

ندوخ جميعًا في التصفيق المدوي..

يترنح الممثل وراء رقة القناع الذهبي؛ لكني ألمح دمعة تسيل على ذقنه من تحت القناع، الأشباح المتنكرة تثقل الهواء بأوهامها ورمادُ الحزن عالقٌ بأجنحتها، عبورُها في الأفق ممتع وشهي، برهة إنحيازها للحقيقة أقصر من تذرعها بالأمل، إنكشافها عريٌ طفولي ورسوخها شأن عابر والكل يمسون أشباحًا في دورة زمن وختام أولمبياد الحوار على الخشبة حين يعلو السحر فوق كل اعتبار. تكابد النفس الشبحية من لوثة الجسد والإنسحار بالشهوات وتعكس هياماتها على من حولها، تفتن النفس الأمارة بالتغاضي؛ فيتجاوز الآخر ريبته وزهو النفس ويتقبل مسوّغات الأقنعة المسرحية لا إقتناعًا بالتنكر بل إشفاقًا من تقوّض بنيان العمل إثر تمرير عبارة حاذقة تفكك النص وتهدم المسرحية.

أنت لا تخسر سوى قناعك أيها الممثل الجميل حين تمعن في هروبك منك وتنكشف الدوال عن الحقيقة في اختفائك المتوقع وراء الستار حيث تواجه جلدك ودمك ورعشتك وذاكرتك فترتعب.

المشاهد لا يخسر غير وهمه بك ووهمه بإمكان عبورك إلى ذاتك على ضوء حقيقة خارج مسرحك المؤقت.

وكما وهبك شريك اللعبة - المشاهد - ماوهب من قبول في تمام يقظته وتلقيه للمتن المسرحي، ينسحب في جنوحك النهائي لمهنة القناع، لا جرح ينوء به ولا معضلة تثقل خطوته الى نفسه فيحدث الصدع بين لحظتكما المتناقضة.

أما أنت ياحامل القناع فتبقى أسير شهرتك التي اقترحتها سلطةُ القناع وتتساءل سرّا: من أنا دون مسرحي وقناعي ودون تلك العيون الشغوفة المحدقة بي والتصفيق الذي يطير بي الى النجوم؟ سلامك مع نفسك يتهاوى في إنصرافك الى التولـّه بهذه النفس وحدها على الخشبة وأمامها، وأما سلامُ المشاهد فمرهونٌ بحقائق وجوده خارج قاعة العرض نجاة من الأقنعة.

وأنت المبحر في زورق التوهّم تعلّـمْ وأعرفْ أنّ كل بداية تفضي الى منتهىً، وأنّ المنتهى ينطوي على بدء مغاير نتجاوز به أوهامنا المتواترة ووهم مَنْ أرهقته تحولاته على المسرح وفي انعكاس المرايا.

كنت شاهد عبور المتلقي إلى نفسه حين عرضتَ نصّك وصرت طريق خروجه إلى واقع أبقى من تجليات الرغبة وفداحة التعويل على رمال متحركة فوق مسرح مرتجل.

جديرٌ أنت بجائزة العام ومديح الجموع..

أعود ثانية لإرتشاف شاي ساخن في بيت الشاي الصيني قبالة المسرح. أشربه بأبّهة ورضا.

أدوّنُ على صفحات مفكرتي في مديح مسرح القناع:

- تعلّموا مثلي أن لا تندموا لإسرافكم في القول حين تورّطون النفس في مأزق الوعد بما لا تطيق حدودُكم وحدودُ النص الممسرح.

يقبِلُ النادل الفيتنامي المهذب بابتسامته الفرنسية التجارية ولكنته الباريسية ويجدّدُ لي الشاي بقدح ياباني موشوم برسمة فتاة ترتدي الكيمونو وهي تحدّقُ بالشمس في ذهول العاشقين.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

وزير الداخلية في الفلوجة للإشراف على نقل المسؤولية الأمنية من الدفاع

أسعار الصرف في بغداد.. سجلت ارتفاعا

إغلاق صالتين للقمار والقبض على ثلاثة متهمين في بغداد

التخطيط تعلن قرب إطلاق العمل بخطة التنمية 2024-2028

طقس العراق صحو مع ارتفاع بدرجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram