حيدر المحسن
لأجاثا كريستي رواية عنوانها "وصلوا إلى بغداد"، فيها لوحات فنيّة عن حياة العراقيّين في الزمن الذي زارت فيه البلد مع زوجها عالم الآثار:
"كان الهواء في شارع البنوك مفعما بالغبار وبأنواع مريعة من الضجيج حيث تختلط زمامير السيارات المتواصلة بصراخ الباعة من مختلف الأصناف. إنهم رجال وصبية وأولاد يبيعون من كلّ أصناف الفواكه والأمشاط، شفرات الحلاقة، وبضائع أخرى متنوّعة يحملونها في صوانٍ ويتنقلون بها عبر الشوارع بسرعة".
بعد انقضاء حوالي ثلاثة أرباع قرن على زيارة أجاثا كريستي، ما تزال أسواق بغداد تضجّ بصخب الباعة. اختلفت أنواع البضائع، وبدل الصواني التي شدّت انتباه الروائيّة، صار البائعون الذين لا يملكون دكّانا يقتعدون أرض السوق، في مساحات صغيرة اقتطعوها من الشارع تُسمّى "بسطات".
اسمه في الهويّة "مُلْكيّة"، وكُنيتُه "أبو طارق". بائع سجائر يرتدي دشداشة وكوفيّة وعِقال، وجهه أسمر مع شارب خفيف ولحية شائبة. هو أنثى في سيماء رجل، ويُعامل مُعاملة الذكور. مرض أبو طارق ذات يوم وعِدْتُهُ في منزله، وكان عبارة عن غرفة صغيرة صارت عتبتها "بسطة" لبيع السجائر. الغرفة هادئة وآمنة من ضجيج الشارع، أثاثها بسيط للغاية؛ سجّادة مع فراش وطاولة تزدحم عليها أشياء متنوعة، متراكمة على غير نظام. سألته، أو سألت ملكيّة: - لكن قلبكَ مجهد بسبب ارتفاع ضغط الدم، وعليك أن ترتاح؟ أجابني، وكنتُ أسمع حشرجة روحه لأنه مُتعب: - العمل هو "دَورةُ" وجه الرجل. من يعيل أولاد أخي الثمانية اليتامى وزوجته إذا لم أشتغل أنا؟
يعمل الباعة الذين يشبهون أبي طارق طوال الأسبوع، فهم يعيشون على محصولهم اليوميّ وعندما يحلّ الغدُ يكون دخلهم نافدا. حتى الأعياد هم محرومون منها، لكنّهم يعرفون مواعيدها لأنّ فيها يكثر الرزق وتزداد ساعات العمل، وتختلف البضائع المطلوبة.
"يحدث أن أمرّ أمام بائعي الأثاث القديم وبائعي الكتب القديمة. لا أحد يدخل ليشتري منهم، إنهم لا يبيعون شيئا بالطبع، ولكننا نبصرهم في الداخل، جالسين في أريكة يقرؤون، لا يحملون همّ الغد (وإن لم يكونوا أغنياء) ولا يشغلهم كذلك همّ النجاح، يملكون كلبا يجلس عند أقدامهم، مرحا، أو قِطّا يزيد من حدّة الصمت بتسلّله بين صفوف الكتب وكأنه يمسح العناوين عن ظهورها".
قائل هذا الكلام هو الشاعر الألماني ريلكه، وكان يُعرف عنه حبّ السفر وعدم الاطمئنان إلى العيش في بلد واحد، كأن قوّة خفيّة تدفعه للانتقال من مكان إلى آخر:
"آه! أودّ أحيانا أن أشتري إحدى تلك الواجهات الممتلئة وأجلس وراءها مع كلب لمدة عشرين عاما. عند المساء سيكون هناك ضوء في المكان الخلفي من الدكان، حيث سنتناول طعامنا مع الكلب، أو مع القِطّة، دون أية شكوى. الأمر هكذا جيّد، وسيكون أكثر جودة".
تشدّني هذه الأماكن كثيرا أينما حللتُ، في داخل البلاد وفي الخارج. وأتمنّى – مثل ريلكه – أن أقضي عمري في مكان شبيه لها. هناك من يولد في غرفة صغيرة ذات سقف واطئ ويعيش فيها طوال حياته، مثل صديقي أبي طارق، ويستعدّ عند أحد أركانها أخيرا للموت. في هذا الوسط المُملق نستطيع العثور على أحاسيس توصف بالشّاعريّة، ويمكننا كذلك أن نعيش حياة هانئة، صافية من السغب والهمّ، ونختصرها في الأخير بأنها قطرة عسل ذابت في الفمِ، وقام البدن بتمثيلها، ثم يأتي الموت مثل ذرّة رمل تتوّج قمة جبل السعادة هذا، لكي يبقى واقفا.
المكان الأنيس لساكنه بضعةٌ من الجنّة، وهذا كثيرٌ موجود، ولا علاقة له بدرجة العمران ونوع الأثاث، وبتعدّد المرافق والحديقة الفارهة والمطار الخاصّ. كلّ هذا نقتنيه من أجل راحتنا، لكنه في الأخير يخذلنا عندما يعاكسنا الحظّ، وربما زادت لياقة المرء للحياة وهو يسكن دكّانا صغيرا يجمع فيه بيته ومكان عمله، يقلّبُ فيه نظره من حين إلى آخر بين المارّة، ويُعيره لمسته طوال اليوم، ويشعر فيه برضىً متواصل. إنه مكان واحد لكنه يمتدّ في أزمنة عديدة، ويشبه من يسكنه عشبة تعيش خارج الزمان في كهرمان، مسكونة بالحركة لكنها بلا حركة. إنها غير موجودة وموجودة دائما، فهي خالدة إذن.