اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > سرد الحيوان واستعادة فلسفة ديفيد هيوم

سرد الحيوان واستعادة فلسفة ديفيد هيوم

نشر في: 23 مارس, 2024: 10:35 م

د. نادية هناوي

حققت دراسات التعدد الاختصاصي تقدما معرفيا فتح أمام النقد الأدبي آفاقا جديدة للاستزادة العلمية والعملية، ومن ذلك بزوغ علم سرد الحيوان،

ويختص بمركزة النظر البحثي حول الحيوان بقصد مقاربته مقاربة تتعدى حدود الانسنة إلى ما هو أوسع من ذلك بكثير مما يتعلق بماهية الحيوان ووظائفه وأدواره وحقوقه، وما على الإنسان من مسؤولية في الإقرار بتلك الحقوق واحترامها. ولقد تبنت المدرسة الانجلوامريكية التنظير لعلم سرد الحيوان في السنوات المنصرمة، انطلاقا من سعيها الى المغالبة في مجال النقد الأدبي أولا واستنادا إلى الفلسفة التحليلية والفكر البراغماتي بوصفهما أرضية فكرية ثانيا وتأثرا بأطروحات الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم(1711-1776) ثالثا، فلقد عارض هيوم العقلانية الديكارتية وأعطى للحيوان مكانة خاصة بها يوازي الانسان، وعد الحيوانات(كالبشر تتعلم كثيرا من الأشياء من التجربة وأنها تستنتج من نفسها الأحداث.. وأنه ليمكن التمييز بوضوح بين جهل الصغار منها وقلة تجربتها وبين المهارة والحنكة التي لكبارها التي تعلمت بطريقة المزاولة أن تتجنب ما كان صدمها وأن تطلب ما كان جلب لها الراحة والالتذاذ.. ومن المحال أن يكون هذا الاستنتاج الذي قام به الحيوان قائما على أي مسار من الحجاج أو الاستدلال.. لا بد أن الطبيعة قد أودعت مبدأ آخر أيسر وأعم في الاستعمال والتطبيق)

والأدلة التي بها برهن هيوم على العقلية الحيوانية كثيرة، منها أن دورة الدم عند مخلوق كالضفدعة أو السمكة تقوي التخمين بالتشاكل أو التماثل بين كل الحيوانات، ومنها أن الطبيعة في جميع الكائنات هي الغريزة أي القدرة الآلية الفاعلة فينا من دون علمنا وغير الموجهة بأية أفكار أو مقارنات أو موضوعات مخصوصة في ملكات الإنسان الفكرية. ولئن لم تكن الغريزة هي هي بين الإنسان والحيوان، فإن غريزة بعينها تعلِّم الإنسان أن يتجنب النار بقدر ما، والغريزة هي التي تعلم العصفورة فن حضانة بيضاتها وتدبير العناية بأفراخها.

ورأى هيوم أن للإنسان كيفيتين: الأولى انه مولود للفعل أساسا ومتأثر بالذوق والإحساس، والأخرى أن الإنسان كائن عاقل أكثر مما هو فاعل ويجتهد في تربية ذهنه أكثر مما يجتهد في تهذيب أخلاقه. وشدد على ضرورة توسيع نطاق الفلسفة فلا تكون مختصة بالنخبة ولا محصورة في ما هو مثالي وروحي، وهو القائل: (يا أيها الإنسان كن فيلسوفا، ولكن عَبْرَ كامل فلسفتك تلك، ابق إنسانا). وبحسب هيوم، فان ما يسري على البشر، يشمل أيضا جميع الكائنات الحية، ومنها الحيوان الذي له عقل مثل الإنسان؛ فهما يشتركان في الغرائز كناموس طبيعي لا تقدر على معارضته إلا المعجزات الربانية. أما الادراكات الذهنية والأحاسيس الشعورية فإنها تتمثل في كل ما له حياة مما يكاد يجعلنا نقول: إننا نحس به.

وليس خافيا ما في فلسفة هيوم من مرجعية أفلاطونية فيها الطبيعة هي مصدر الإلهام البشري، والإنسان مجرد متأثر بالذوق والإحساس بوصفه كائنا عاقلا أكثر منه فاعلا، يقول هيوم:(الإنسان كائن عاقل.. يتلقى من العلم ما يخصه من القوت والغذاء غير أن حدود الذهن الإنساني لديه هي من الضيق بحيث أن ما يُرجى لتحقيقها في هذه المسألة الخاصة من مقدار أمنه ومكتسباته هو ضئيل والإنسان كائن اجتماعي بقدر ما هو عاقل ولكنه ها هنا أيضا لا يستطيع أن ينعم دوما بصحبة ممتعة).

وعلى الرغم مما قدمه هيوم من تصورات تساوي الانسان بالحيوان، فانه أكد في مواضع أخرى أن للمخيلة البشرية فعلا جماليا لا حدود له، إذ أن(لا شيء أشد انعتاقا من مخيلة الانسان ورغم كونها لا تستطيع الخروج عن ذلك المخزون الأصلي من الأفكار التي يعطيها الحس الداخلي والخارجي، فإن لها مقدرة لا حد لها على مزج تلك الافكار وتركيبها وفصلها وتقسيمها في كل ضروب الخيال والرؤى.. ذلك انه بما كان للذهن من النفوذ على كل افكاره، يمكنه أن يقرن عن قصد تلك الفكرة المخصوصة باي مضمون من المضامين الخيالية وان يعتقد تبعا لذلك ما يشاء. وهذا أمر مناقض لما نجد في تجربتنا اليومية. يمكننا أن نعمد في توهمنا الى قرن رأس إنسان بجثة فرس ولكن ليس بمشيئتنا أن نعتقد ان مثل هذا الحيوان قد وجد أبدا.. ويتبع ذلك اذن أن الفرق بين المضمون الخيالي والاعتقاد انما يتمثل في إحساس ما أو في شعور ما يتعلق بالاعتقاد لا بالمضمون الخيالي) ولكن الخيال مثل الاعتقاد فعل عقلي وليس فعلا غريزيا. وهذا إشكال جلي، جعل هيوم يؤلف كتابه(التاريخ الطبيعي للدين) وفيه اهتم ببحث موضوعة الآلهة في الحضارات القديمة، فوجد أنها وُلدت نتيجة عبادة الحيوان. ذلك أن(الناس الذين ولدتهم الارض صاروا أعداءها، فاضطرت أن تتخفى بمظهر الحيوان).

إن هذا التأويل للطبيعة والإنسان والدين والنفس يمثل مرجعا مهما من مرجعيات علم السرد ما بعد الكلاسيكي التي أمدت المنظرين بكثير من الأفكار هذا إلى جانب ما تركته فلسفة هيوم من أثر في المفكرين الامريكان مثل وليم جيمس وتشارلز ساندرز بيرس وجون ديوي.

وإذا كانت فلسفة هيوم مرجعا مهما لعلم سرد الحيوان، فإن الانثروبولوجيا تقف في مقدمة العلوم التي تتداخل مع هذا السرد عامة وطروحات هيوم خاصة، نظرا للصلات الوثيقة بين دراسة التاريخ الطبيعي للإنسان في تطوره عبر السلالات والحضارات وبين موقع الحيوان في عالم الانسان. وبالعودة إلى بواكير علم الانثروبولوجيا، ستتضح تلك الصلات، فالعالم السويدي كارل فون ليين(1778 - 1707) درس العلاقة القائمة بين الإنسان والقردة العليا(الأمر الذي جعله يخرج بمصطلح الإنسان العاقل هومو ، ومع انه لاحظ اختلافا واسعا بين الفصائل الحيوانية وبالرغم من وجود فرضيات عن احتمال وجود عملية تطويرية. أما ايمانوئيل كانت(1724 - 1804) فأسس للسؤال الانثروبولوجي: ما هو الانسان؟ بكتابه(الانثروبولوجيا بقصد براغماتي) 1798 ورأى أن أساس كل ما يمكن أن يعرفه الإنسان ويعمله ويتأمله، مرتبط بتلك الطبيعة(التي فيها العقلاني مشروط بالحيواني والعكس ايضا وإلا لكان الانسان مجرد حيوان او مجرد إله.. إن الطبيعة البشرية ليست ضرورة مطلقة ولا حرية مطلقة ليست حيوانية غير عقلانية ولا عقلانية من دون حساسية بل للإنسان طبيعة يصنفها هو لنفسه كونه قادرا على اكمالها بحسب ما يضع لها هو من أهداف.. وبما انه حيوان موهوب بقدرة أن يكون عاقلا فهو يصنع من نفسه حيوانا عاقلا وليس الإنسان ما تفعله به الطبيعة حسب بل أيضا ما يمكنه أن أو يجب عليه أن يفعله هو من نفسه لأنه كائن حر. وهذا هو المقصود بكلمة براغماتي في عنوان الانثروبولوجيا) ولقد أكد كانت أن في فلسفة هيوم منظومة تجريبية وفي الان نفسه ارتكانا الى المبادئ العامة ومنها قانون السببية كضرورة ذاتية بحتة.

وكان من نتائج تأسيس المدرسة الانجلوامريكية لعلم سرد الحيوان، أن توسعت مدارات علم السرد باتجاه غير بشري، وغدا هذا العلم الجديد ميدانا بحثا مستجدا في اختبار كل ما هو نظري وإجرائي يتعلق بعالم الحيوان والانسان وبالتزامن مع علم آخر انبثق أيضا من جراء تبني نزعة ما بعد الإنسان هو علم سرد البيئة ويقوم على فكرة أن الإنسان هو السبب الرئيس في دمار الطبيعة وهو وحده الذي يهدد نظامها الإحيائي بالخطر.

إن هذين العلمين أعني علم سرد الحيوان وعلم سرد البيئة سيساهمان في وضع طروحات جديدة مستقبلية في مجال النظرية السردية اعتمادا على ما يقدمه الحيوان من أدوار وفعاليات عقلية واعية وغير واعية وما تتركب منه استجاباته العاطفية من أبعاد غير معقولة وما ينتجه عقل الشخصية الحيوانية من تخييل يحاكي الواقع المعيش برؤية خيالية تتجاوز فكرة التداعي الواعي والأحلام كما تتخطى المنطق والزمن، ذاهبة إلى ما هو غير عقلاني، مما نجده في قصص الأطفال وروايات الخيال العلمي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

وزير الداخلية في الفلوجة للإشراف على نقل المسؤولية الأمنية من الدفاع

أسعار الصرف في بغداد.. سجلت ارتفاعا

إغلاق صالتين للقمار والقبض على ثلاثة متهمين في بغداد

التخطيط تعلن قرب إطلاق العمل بخطة التنمية 2024-2028

طقس العراق صحو مع ارتفاع بدرجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram