د. طلال ناظم الزهيري
في عالم يهيمن عليه الابتكار الرقمي حيث يعيد نمو الموارد الرقمية تشكيل طريقة وصولنا إلى المعلومات والتفاعل معها تشهد المكتبات على اختلاف أنواعها تحولا مؤثرا تتلاشى معه الصورة النمطية لعالم المكتبات بفضاءاته الهادئة المليئة بصفوف من الكتب المرتبة وعبق رائحة الأوراق المنبعثة من رفوفها.
ولعل من أبرز ملامح هذا التحول هو انخفاض الاهتمام بالمكتبات التي خسرت مكانتها السابقة باعتبارها المورد الأهم للمعلومات ومصادرها مقابل انتشار الموارد الرقمية المتمثلة بالمستودعات الرقمية التي يمكن الوصول لمواردها بكل يسر. وفي الوقت الذي يشهد الفضاء الرقمي من نمو كبير في الموارد الرقمية المتاحة للجميع تواجه المكتبات اليوم انخفاضا كبيرا في حركة مرور المستفيدين ونقص حاد في حالات الإعارة وتداول الكتب، هذا الأمر لا شك كان له تأثير مضاعف على المتخصصين في مجال المكتبات من خلال تضيق فرص العمل بعناوين أمناء المكتبات فالعلاقة بين التعليم وسوق العمل أكثر تداخلا اليوم من أي وقت مضى. خاصة مع تحول متطلبات سوق العمل لاستيعاب التطورات التكنولوجية واحتياجات المجتمع المتغيرة، إذ يشهد تخصص المكتبات على المستوى العالمي انخفاضا في اهتمام الطلاب وإن كان بنسب متفاوتة تتأثر بمستوى وطبيعة الموارد الرقمية المتاحة وطريقة الوصول إليها. ويمكن أن يعزى هذا الأمر إلى مجموعة متنوعة من العوامل بما في ذلك الطلب الضعيف الملحوظ على الوظائف ذات الصلة بالمكتبات. نتيجة لذلك تضاءل اهتمام الطلاب بدراسة علوم المكتبات طالما كان لديهم خيارات أخرى لأنهم يرون أن فرص العمل محدودة ضمن حدود الأدوار التقليدية للمكتبات. أثار هذا التحول مخاوف بشأن مستقبل المكتبات وسوق العمل لأمناء المكتبات للدرجة التي قد يجد خريجو أقسام المكتبات أنفسهم غير مستعدين لسوق عمل يقدر المهارات الرقمية وإدارة المعلومات والتطبيقات التكنولوجية. ومع ذلك فإن هذا التحدي يمثل أيضا فرصة لإعادة الابتكار حيث يجب أن تسعى أقسام المكتبات في جميع أنحاء العالم إلى تنشيط عروضها لتلبية متطلبات عصر المعلومات الحديث.
ولمواجهة هذا التحدي يجب على إدارات أقسام المكتبات الشروع في بتنفيذ عمليات التحول لتنشيط وتطوير برامج التأهيل وإعادة توجيهها بما يتلاءم مع متطلبات العصر الرقمي إذ يعود إصلاح البرامج الأكاديمية الحالية من خلال دمج التطبيقات الرقمية ومفاهيم وأسس إدارة المعلومات والبيانات والمعرفة فضلا عن التركيز على التقنيات الناشئة أمرا بالغ الأهمية. وفيما يلي أهم المقترحات التي من شأنها أن تعيد لهذا التخصص أهميته والتي يمكن أن توفر للخرجين برامج تأهيل تمكنهم من اكتساب مهارات متنوعة تتلاءم مع متطلبات سوق العمل في الوقت الراهن:
ــ استحداث مقررات ومناهج دراسية موجهة لاكتساب مهارات نظرية وعملية في تحليل البيانات والأرشفة الرقمية وأمن المعلومات إلخ...، مع التأكيد على المهارات اللازمة للتميز في أدوار المكتبات الحديثة.
ــ ضرورة تطوير برامج التأهيل من خلال التعاون مع الأقسام الأخرى مثل علوم الكمبيوتر وعلوم البيانات وإدارة الأعمال لإنشاء برامج متعددة التخصصات. هذا يمكن أن يؤدي إلى تأهيل الخريجين الذين هم على دراية جيدة في كل من إدارة المعلومات والابتكار التكنولوجي.
ــ تغيير أسماء أقسام المكتبات لتشمل مفاهيم أوسع مثلا "علم المعلومات وإدارة المعرفة" أو علم المعلومات وتقنيات المعرفة، وذلك من أجل فتح آفاق جديدة للخريجين يعكس هذا الاسم الموسع الأدوار المتنوعة التي يمكن أن يضطلع بها المكتبيون الجدد من إدارة الموارد عبر الإنترنت إلى العمل في مراكز إدارة المعلومات والبيانات.
ــ دمج المناهج النظرية مع التدريب العملي خاصة في مجال إدارة مواقع الويب وإنشاء المحتوى والتنظيم الرقمي يجب أن يكتسب الخريجين بخبرة عملية تترجم إلى مهارات قيمة لمجموعة متنوعة من الأدوار التي تتناغم مع متطلبات سوق العمل.
ــ ضرورة التعاون مع مؤسسات القطاعين العام والخاص لتطوير برامج التدريب الداخلي ومشاريع الممارسة في العالم الحقيقي إذ يوفر هذا العرض للطلاب رؤى مباشرة حول ممارسات إدارة المعلومات الحديثة ويسهل انتقال أكثر سلاسة إلى القوى العاملة.
ــ توجيه برامج التأهيل إلى التركيز على المهارات الشخصية مثل الاتصال والتفكير النقدي والقدرة على التكيف أمناء مكتبات المستقبل يجب أن يكونوا متصلين فعالين، قادرين على سد الفجوة بين التكنولوجيا والتفاعل البشري.
ــ تميز الأدوار الجديدة للخرجين كإخصائي معلومات من خلال توثيق العلاقة مع المعلومات والمعرفة بدرجة أكبر من أوعيتها بالتالي فإن صفة أمين المكتبة لم تعد هي الصفة الأمثل لتمثيل الدور الحقيقي للمتخصصين في ظل فضاء رقمي واسع جدا، يتطلب مهارات وتقنيات تتجاوز المفاهيم التقليدية للعمل المكتبي.
ختاما يجب ألا يكون تراجع الاهتمام بأقسام المكتبات والمجال الأوسع لأمناء المكتبات نذيرا بإلغاء هذه الأقسام أو تراجع دور المكتبات في المجتمع. بدلا من ذلك فإنه يجب أن يوفر فرصة محورية للبدء بإجراءات التحول ومواكبة التطور من خلال تبني التطورات التكنولوجية وتحديث البرامج الأكاديمية وتوسيع نطاق عروضها اذ يمكن لأقسام المكتبات بصرف النظر عن مسمياتها تنشيط اهتمام الطلاب وإعادة تحديد دور أمناء المكتبات والتأكد من استعداد الخريجين للنجاح في مشهد المعلومات الديناميكي الرقمي إذا ما انتهجت هذه السياسية. أما أن نركن إلى الإرث التاريخي لدور المكتبات من أقدم العصور ونتخذ منه جدار نار لحماية وجود هذه المؤسسات، في ظني المتواضع لن يكون ذا جدوى أمام السيل الجارف من المعلومات الرقمية والنمو الكبير لمبادرات الوصول الحر شئنا أم أبينا أن وجود كلمة المكتبات في عناوين التخصصات الأكاديمية سوف يجعل منها مرتبطة وجوديا مع مؤسسات المكتبات. وفي الوقت الذي كان فيه هذا الترابط طوق نجاة ودافع لنمو وتطور تلك الأقسام قديما. أصبح اليوم المنحدر الخطر الذي يمكن أن يدفع بنا إلى ما للا تحمد عقباه.
جميع التعليقات 2
ا.د. محمد عزالدين
توصيات ممتازة تمثل رؤية مستقبلية تمكن اقسام المكتبات والمعلومات من من العمل علي مواكبة هذه الثورة الرقمية
ابوبكر محمد
فعلا لابد من تطوير أقسام المكتبات بتكنولوجيا المعلومات والتقنيه لاتاحه فرص العمل لخريجين مكتبات ومعلومات