إياد العنبر
من البديهيات أن الفوضى لا يمكن لها أن تنتج نظاما، ولكن تراكماتها تنتج خرابا يكون من الصعوبة تجاوز آثاره في المجالات العامة. من هنا يمكن أن نتصور حجم التراكمات التي أنتجتها له فوضى السياسة والطبقة الحاكمة خلال العشرين عاما الماضية.
يمكن لأي متابع- بعيدا عن أجواء الفوضى التي نعيشها في العراق- أن يعد الخلافات السياسية وتطوراتها، مسألة طبيعية في بلد عاش محنة الدكتاتورية وخضع لنظام شمولي لما يقارب نصف قرن من تاريخه السياسي، وتراكم فيه التهميش والإقصاء وتم حكمه بقضبة من حديد ونار. وتلاشت ملامح الدولة وباتت تختزل في الحزب الحاكم، ومن ثم في عائلة الرئيس وحاشيته. بيد أن كل هذه التبريرات، لا يمكن لها أن تكون مقنعة أمام حالة التردي والنكوص التي يشهدها المواطن من حيث علاقته بالدولة والطبقة الحاكمة.
الطبقة السياسية الحاكمة والمتنفذة في العراق بات يستهويها العبث والفوضى، وربما أصبحت وظيفتها العمل على إدامتهما، للهروب من الاستحقاقات السياسية المتعلقة بإعادة الاعتبار للدولة، لذلك في كل أزمة يتم تقزيم مؤسسات الدولة وتحويلها إلى حلبة صراع بين الأطراف السياسية المتنافسة على الهيمنة والاستحواذ على الدولة ومواردها ومؤسساتها.
المفارقة أن النخب الحاكمة في كل أزمة يعبرون عن إهانة واضحة للنظام السياسي ومؤسساته. لك أن تتخيل أن الحكومة والمؤسسات الأمنية والقضائية تحارب الابتزاز السياسي و"المحتوى الهابط". ولكن هذه الظاهرة التي تحاربها باتت تنتشر في مؤسساتها الأمنية، إذ أعلن الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة عن "تحديد عناصر شبكة داخل المؤسسة الأمنية تعمل على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي صفحات بأسماء مستعارة لابتزاز المؤسسة الأمنية والإساءة إلى رموزها فضلا عن ابتزاز الضباط والمنتسبين ومساومتهم".
قد يكون هذا الاختراق مسألة اعتيادية تحدث في كثير من البلدان. لكن عندما تتبنى الحكومة حملة ضد الابتزاز السياسي، وتحاول أن توجه هذه التهمة إلى شخصيات إعلامية وناشطة في وسائل التواصل الاجتماعي، في حين أنه ينتشر في مؤسساتها الأمنية وعلى مستوى قيادات أمنية بمراتب عالية تصل إلى فريق أول ركن في وزارة الدفاع، ولواء في وزارة الداخلية وغيرهم من المراتب الذين يصل عددهم إلى 14 ضابطا ومنتسبا، فالموضوع يتحول إلى فضيحة تحتاج وقفة من قبل الحكومة للوقوف على مستوى الانهيار الذي تشهده مؤسسات الدولة، ونموذجها المؤسسة الأمنية التي ترتبط مباشرة بتفاصيل حياة المواطن اليومية. هذه الحادثة مرت مرور الكرام، من دون توضيح ملابساتها. وربما كانت هناك قصدية بترويج فضيحة بقصد انشغال الرأي العام بها، والتغطية على قضية تورط رتب عسكرية وأمنية في الابتزاز السياسي.
ربما يكون هذا الموضوع حدثا عابرا، ويحدث في كثير من الدول المتقدمة والمتخلفة. لكن ليس لدرجة أن يخرج سياسي في لقاء تلفزيوني ويتهم رئيس المحكمة الاتحادية العليا بأنه هدده "بإسقاط عضويته من البرلمان، في حال عدم تخليه عن التحالف الثلاثي"، التحالف الذي كان يقوده التيار الصدري لتشكيل حكومة الأغلبية قبل انسحاب نوابه من البرلمان.
تصريح السيد مشعان الجبوري، لا يمثل اتهاما فقط لأعلى مؤسسة قضائية في الدولة، والتي منحها الدستور السلطة المطلقة العليا. وإنما يشكل ظاهرة فوضى التصريحات والمواقف السياسية التي تجعل مؤسسات الدولة العليا طرفا في الخصومات والصراعات السياسية. ولحد الآن لم ترد المحكمة الاتحادية على هذا الاتهام إلا بإصدار بيان عام يعتبر تلك التصريحات "هجمة إعلامية داخلية وخارجية مسيسة هدفها الإساءة إلى سمعة المحكمة الاتحادية واستهداف شرعيتها".
فوضى التصريحات السياسية
في ظل فوضى التصريحات السياسية التي تسيء للدولة والمؤسسات، لا يكون تصريح السيد مشعان الجبوري بالحديث الذي يمكن أن يثير الاستغراب، فقبله صرح رئيس كتلة "تحالف نبني" السيد هادي العامري، بأن "القضاء يخضع للتهديد، ونحن نضغط على القضاء". ويستدل العامري على ذلك بموضوع الفساد وضرب الخصوم، وأن "التوازنات السياسية هي التي تتحمل مسؤولية الأخطاء الماضية".
المفارقة الأكثر غرابة، هي تصريح القاضي جاسم العميري رئيس المحكمة الاتحادية العليا، بأن "المحكمة الاتحادية ملتزمة بما اتفق عليه المؤسسون للعملية السياسية". في حين أن بعض الزعامات المؤسسة للعملية السياسية هم الآن أكثر من يطعن في المحكمة الاتحادية. ويأتي في هذا السياق تشبيه السيد مسعود بارزاني المحكمة الاتحادية العليا بـ"محكمة الثورة" في النظام الدكتاتوري السابق.
ليس مهمهاً تقييم قرارات المحكمة الاتحادية، فقراراتها باتة وملزمة لجميع السلطات. ولكن الأكثر أهمية هو دخولها على خط تبادل الاتهامات السياسية وتحويلها إلى طرف في الخصومة بدلا من الإقرار باستقلاليتها وعلو مكانتها بين مؤسسات الدولة. لكن الترويج بالاعتراض على قراراتها أو رفضها، وحتى اتهامها بالدخول ضمن دائرة الاستقطاب السياسية بين الأطراف المتخاصمة هو أخطر مراحل الفوضى السياسية في العراق.
الصراعات السياسية طوال الفترة الماضية كانت تدور رحاها بين الأطراف السياسية، تارة تنعكس داخل البرلمان، وتارة أخرى بين أطراف مجلس الوزراء. لكن في مرحلة ما بعد انتخابات 2021، أدخلت الأطراف المتصارعة المحكمة الاتحادية في دائرة صراعاتها، وبات إدخال المحكمة الاتحادية في كل خلاف سياسي صغير أو كبير مؤشرا خطيرا على هشاشة العملية السياسية؛ لأن قرارات المحكمة بطبيعتها تكون لصالح طرف ضد آخر، أو تحاول تفسير النص الدستوري، وتكون النتيجة طرفا متضررا وآخر مستفيدا. وبالنتيجة كلما كثرت القضايا التي تدخل فيها المحكمة الاتحادية، قلت مساحة التسويات السياسية.
كنا نوجه سهام النقد إلى الطبقة الحاكمة بأن مرجعيتها في الاتفاقات السياسية التي غالبا ما تشكل على أساسها الحكومات. وكانت هذه الاتفاقات تعلو على الدستور، لأن الأولوية في تشكيل التحالفات هي تقاسم مغانم السلطة وليس ترسيخ نصوص الدستور مرجعا أعلى في العمل السياسي.
أما الآن، فحتى الاتفاقات السياسية أو الصفقات التي تكون مهمتها محصورة في تشكيل الحكومة فقط وتقاسم وزارات ومؤسسات الدولة، لا تلتزم فيها الأطراف السياسية بقواعد الشراكة التي تشكلت على أساسها الحكومة. فمحمد الحلبوسي رئيس حزب "تقدم"، وهو صاحب الأغلبية داخل القوى السياسية السنية، لم يتم الالتزام بالشراكة معه. وهناك محاولات لإضعاف تأثيره في المشهد السياسي وإضعاف قدرته على ترشيح من يخلفه في رئاسة البرلمان. رغم أنه كان شريكا رئيسا في "تحالف إدارة الدولة" الذي تشكلت منه حكومة السوداني.
القوى السياسية الشيعية التي شكلت "تحالف الإطار التنسيقي"، بدأت ملامح التشظي والانشقاقات تبدو أكثر وضوحا فيما بين الأطراف الرئيسة التي تشكل هذا التحالف. فالبعض منها يريد أن يستحوذ على الحكومة، والآخر يريد أن يضعف تلك الأطراف من خلال قانون انتخابات يقوض النفوذ السياسي لرئيس الحكومة ومن يفكر في التحالف معه في الانتخابات القادمة. وبالنتيجة هذه الخلافات قد تكون طبيعية في الحياة السياسية، لكنها ليست كذلك عندما تبدأ مبكرة وتحاول أن تعكس تلك الخلافات على الاتفاقات السياسية التي تحكم العملية السياسية وتتجه الأنظار نحو الانتخابات أكثر من الأولويات التي ينتظرها المواطن من الحكومة.
هذه الفوضى السياسية، تعود إلى إشكال رئيس في عمل منظومة الحكم في العراق. إذ لم يتم ترسيخ أعراف سياسية تكون حاكمة في الخلافات والنزاعات، عندها تكون مساحة الحلول السياسية قابلة للأخذ والرد. فالتوافقات السياسية التي يتبجح بها السياسيون، هي نوع من الصفقات تنتهي عند حدود تقاسم مغانم السلطة. ولذلك فشلت في أن تكون لها أعراف تحكم العمل السياسي، ويتم اللجوء إليها في الخلافات السياسية. والدستور تم ركنه على رفوف التجاهل، وتفريغه من وظيفته الرئيسة، في أن يكون حاكما في النزاعات بين مؤسسات الدولة وأن لا تكون له العلوية على الاتفاقات والصفقات بين الفرقاء السياسيين، وليس العكس. لذلك ليس من المستغرب أن تكون المزاجيات السياسية هي الحاكمة بدلا من الأعراف السياسية والدستور. ومن ثم تكون الفوضى واقعا لا محالة.
الأطراف السياسية الفاعلة والمؤثرة الآن، أغلبها لا تربطها علاقة بالفاعلين الرئيسين الذين أسسوا منظومة الحكم في العراق بعد 2003. والقوى الصاعدة الآن محكومة بدافعين أساسيين، الأول الانقضاض على كل الأعراف السياسية التي شكلتها النخب السياسية الحاكمة بعد 2003. والثاني، تشكيل مجال سياسي يحكم قبضتها على مستقبل العملية السياسية. ولذلك فإنها تسعى إلى أن تكون الأطراف المتحكمة في الدولة من خلال السيطرة على مواردها ومؤسساتها. بيد أن مشكلتها أنها غير قادرة على التحكم في التناقض بين رغبتها في تشكيل أعراف سياسية جديدة وفق رؤيتها ومصالحها، وبين تخوفها من خسارة مكاسبها في السلطة والنفوذ التي حصلت عليها في ظل اشتراكها في منظومة الحكم التي أنتجتها القوى السياسية السابقة. كونها لا تزال بيئة صالحة للتمدد والنفوذ داخل الدولة والتغول عليها.