د. أسامة شهاب حمد الجعفري
الانحطاط الأخلاقي في بعض مؤسسات الدولة منبعه عدم احترام شرط "حسن السيرة والسلوك" عند اختيار الشخصية التي تتولى المنصب, واهمال هذا الشرط القانوني ذا البعد الأخلاقي يجعل الدولة برمتها غير محصنة اخلاقياً وتتصدع بشكل لا يمكن السيطرة عليها.
وينبغي ان يتعامل مع هذا الشرط بصورة جدية غير قابلة للتهاون, ولتسليط الضوء على هذا الشرط من الزاوية القانونية ينبغي بحث المفهوم القانوني لهذا الشرط, والأساس القانوني له, وطريقة تطبيقه والجهة المختصة بتطبيقه, والاثر القانوني المترتب على تخلف الشرط بعد تولي المنصب, وقبل ذلك كله لابد من تحديد الفلسفة القانونية لهذا الشرط.
اولاً: الفلسفة القانونية لشرط "حسن السلوك والسيرة" في تولي المناصب
المنصب سلطة يمنحها القانون للفرد لتسيير الشؤون العامة, وهذه السلطة العامة تمكن صاحب المنصب من اصدار أوامر وقرارات, وفي ذات الوقت القى القانون على الطرف الاخر واجب (الخضوع) والامتثال لهذه السلطة, وكونت هذه الجدلية القانونية معادلة اجتماعية غير متكافئة, طرف فيها قوي وطرف فيها ضعيف, طرف فيها يملك السلطة وكل أدواتها وطرف لا يملك أي أداة من أدوات القوة.
وبسبب هذه العلاقة غير المتكافئة ولحماية الطرف الضعيف فيها فقد اقام القانون كيان قانوني مقابل بالضد من صاحب السلطة, نظام قانوني يعاقب الموظف العام على إساءة استعماله السلطة وانحرافه عن غاياتها القانونية, وحجر الزاوية في هذا البنيان القانوني العادل هو شرط "حسن السلوك والسيرة" فيمن يتولى الوظائف العامة. من خلال تشدد القانون في عدم السماح لتولي المناصب في الدولة الا من يتمتع بصفات أخلاقية عالية لضمان منع انحراف السلطة. وكلما كانت هناك جدية في تطبيق هذا الشرط كلما تحصنت الثقة بين الجماهير والدولة وأصبحت اكثر رسوخ, وكلما كان هناك استهانة به كلما تعرضت ثقة الجماهير بالدولة الى تكسر يصعب ترميمها بإجراءات قانونية لاحقة.
ثانياً: المفهوم والاساس القانوني
ويراد بشرط "حسن السلوك والسيرة" مجموعة صفات اخلاقية التي يجب ان يتمتع بها المرشح للمنصب وتظهر عليه عبر تعاملاته اليومية مع المحيطين به فيكون محط ثقة المجتمع. او هو ان يأتي أداء الموظف العام في اطار منظومة من القيم والمبادئ الأخلاقية التي تحكم سلوكه الوظيفي ليكتسب احترام وتقدير المحيطين به من رؤساء ومرؤوسين وزملاء والجمهور الذي يتعامل معه ليخلق الثقة العامة بمنظومة الدولة ككل.
فهذا الشرط يختلف عن عدم وجود سوابق جنائية لدى المرشح للمنصب, وهو شرط لازم في الوظيفة العامة في اول التعيين وشرط لازم لاستمرارها وشرط اكثر لزوم في المرشح لتولي المناصب الإدارية في الدولة, وفقدان هذا الشرط يترتب عليه عزل الموظف عن الوظيفة العامة لان وجوده يصبح حينئذٍ مضراً بالمصلحة العامة ومخالف للقانون لفقدانه احد شروط التعيين.
وتسابقت التشريعات المعنية بالوظائف العامة على اشتراطه ومنها القانون العراقي فقد نصت المادة (7 / الفقرة 4) من قانون الخدمة المدنية رقم 24 لسنة 1960 على انه لا يتولى الوظائف العامة الا من كان " حسن الاخلاق" وبينت المادة (3) من قانون انضباط موظفي الدولة رقم 14 لسنة 1991 ان الوظيفة العامة خدمة اجتماعية يستهدف القائم بها المصلحة العامة وخدمة المواطنين في ضوء القانون وأداء هذه الخدمة الاجتماعية يجب ان لا تخرج عن القيم الاجتماعية التي يؤمن بها المواطنين لتكون هذه الوظيفة مصدر امان للمجتمع لا مصدر خطر وتهديد له. وفرضت المادة (4/ الفقرة ثامناً) من نفس القانون واجب المحافظة على كرامة الوظيفة العامة والابتعاد عن كل ما من شأنه المساس بالاحترام لها سواء كان اثناء الدوام الرسمي او خارجه. كما ان الجامعة بالخصوص يجب ان تكون بيئة تعليمية موثوقاً بها, فالجامعة حرم آمن ومركز اشعاع حضاري للمجتمع لصياغة الحياة بموجب المادة (9) من قانون وزارة التعليم العالي والبحث العلمي رقم 40 لسنة 1988, وان احداث تغيير بُنيوي في القيم الجامعية من خلال تحويل الجامعة الى مصدر تهديد للمجتمع هو انتهاك صارخ للقانون وإعلان الحرب ضد المجتمع.
ثالثاً: طريقة تطبيق الشرط والجهة المختصة بتطبيقه
ان الطريقة القانونية لتحقق من توفر هذا الشرط في المرشح للوظيفة او للمنصب هي:
" التحري ", والجهة المختصة بالتحري عن شرط "حسن السلوك والسيرة" في المرشح لتولي المنصب هي الجهة الإدارية ذات الاختصاص بإصدار قرار اختيار المرشح لهذا المنصب, وتعتمد هذه الجهة على تحريات الشرطة التي تقوم بجمع المعلومات من ذوي الثقة المحيطين بشخص المرشح لتولي المنصب من جيرانه وأصدقائه ومعارفه, وهذه التحريات لا يجب ان تفرغ من محتواها اذا ما كان بنائها على أساس قانوني سليم. فالخوض بالبحث عن هذا الشرط لا يعني الخوض في النوايا وخفايا الشخصية التي لايمكن الوصول اليها وانما هو الخوض في السلوكيات الظاهرة للمرشح في المجتمع هذه السلوكيات التي تكون شخصيته الاجتماعية, ومن ثم فان التحري الذي تقوم به الشرطة وتقدمه الى الجهة الإدارية المختصة انما هو معلومات عن سلوكه اليومي الأخلاقي الظاهر والمعروف في كيفية التعامل مع المحيطين به, وهذا التحري قابل للتقييم والتحليل من قبل الجهة الإدارية المختصة فإن اطمأنت اليه اعتمدته في قرارها وان كان محل شك او متناقضاً او غير كافي فلها ان تعد شخصية المرشح متناقضة وغير واضحة لخلق الاطمئنان اليها ومن ثم تكون المعلومات غير كافية لتكون سنداً لاثبات "حسن السلوك والسيرة" وترفض اسناد المنصب اليه.
ثالثاً: الأثر القانوني في حال تخلف شرط "حسن السيرة والسلوك" بعد تولي المنصب
ان شرط "حسن السيرة والسلوك" هو شرط قانوني لازم للتعيين في الوظائف عامة وفي تولي المناصب خاصة, لان من يتبوأ هذا المنصب لا يمثل نفسه وانما يمثل الدولة التي هي التجسيد القانوني للشعب فيجب ان يتمتع بالقوة والأمانة لاداء مهام هذا المنصب وذلك بموجب نص المادة (7 / الفقرة 4) من قانون الخدمة المدنية رقم 24 لسنة 1960, ولا يكفي ان هذا الشرط متحقق عند التعيين فقط بل يجب ان يستمر هذا الشرط في الموظف طالما هو يكون شاغلاً الوظيفة العامة, واذا ما فقده بعد التعيين او بعد توليه المنصب فأن ذلك يعني انه فقد احد شروط التعيين ومن ثم يجب ان يتنحى نهائياً عن الوظيفة العامة برمتها ويعزل ولا يجوز إعادة تعيينه في دوائر الدولة لان بقائه اصبح مضراً بمصالح الشعب وذلك وحسب المادة (8 / ثامناً) من قانون انضباط موظفي الدولة رقم 14 لسنة 1991, وما هذا ما سار عليه قضاء الموظفين وفق قراراته بهذا الشأن.