د. قاسم حسين صالح
من المدهش ان الإمام علي سبق علماء النفس المعاصرين في تحديد مواصفات الصحة النفسية والعقلية بمفهومها الحديث الذي يعني بمصطلحات الطب النفسي بأنها:
(القدرة على تحمل المسؤولية، اقامة علاقات حميمة مع الناس، التفكير بوضوح وبشكل عقلاني ومنطقي، تقييم النفس بشكل متوازن، ادراك الواقع كما هو، المحافظة على الاستقرار الانفعالي والتوازن الوجداني).
والمدهش أكثر.. انه اشترط توافرها ضمنا في شخصية الحاكم، وتلك دعوة كنّا اطلقناها في العام 2004 وموثقة في كتابنا (الشخصية العراقية بين المظهر والجوهر).
ولقد اشترط الامام توافر الضمير لدى الحاكم. ومع تعدد معاني الضمير الذي يعني الرقيب على افعال الانسان، أو القاضي الذي يحكم بالعدل، أو صوت الله في الانسان، فانه في قيمة الانسان أمام الناس أشبه بفص عقيق في خاتم، اذا اخرجته منه صار لا يساوي شيئا، لأن صاحبه يصبح بلا قيم ولا أخلاق. ومع بشاعة انواع كثيرة من الضمائر الميتة فان أقبحها هو خيانة الأمانة حين تكون هذه الأمانة تخص الناس. فعضو البرلمان مثلا، او المحافظ، أو المدير العام، مؤتمن على أموال الناس ومصالحهم، وينبغي أن يكون ضميره خالصا لمن أئتمنوه. لكنك ترى صحفنا اليومية فيها كاريكاتورات ساخرة بمرارة عن وزير هرب بأموال الناس المساكين بما يعادل ميزانية موريتانيا، وموظف كبير يستحرم أخذ الرشوة في الدائرة لأنه صائم، ويطلب من الراشي ان يأتيه بالدبس الى بيته بعد الافطار!.. ورئيس وزراء يعلن ان لديه (ملفات فساد لو كشفها لأنقلب عاليها سافلها) ولم يكشفها مع انها مصدر قوت الرعية المسؤول هو عنها. ولك في ما تقوله الناس والصحافة عن أمثال هؤلاء ما يجعلك على يقين أن غالبية المسؤولين في حكومات ما بعد 2003 هم أصحاب ضمائر ميتة.
والمؤسف ان المثقفين والصحفيين انشغلوا بالسياسة التي الهتهم عن قضايا اجتماعية واخلاقية خطيرة افدحها ما حصل (للضمير العراقي) في العقود الأربعة الأخيرة، لما تعرض له من قساوة ثلاثة اعداء:الحروب والظلم والكراهية، وجهت له ضربات موجعة أماتته عند الحكام وادخلته في غيبوبة مطلقة عند معظم العراقيين.
وما حصل ان العراق الذي شاع فيه الفساد، قدم قانونا (أو تنظيرا) اجتماعيا لعلماء النفس والاجتماع السياسي نصوغه بالآتي:
(اذا زاد عدد الافراد الذين يمارسون تصرّفا يعدّ خزيا،وتساهل القانون في محاسبة مرتكبيه، وعجز الناس عن ايقافه او وجدوا له تبريرا، تحول الى ظاهرة ولم يعد خزيا كما كان).
والمدهش ثالثة أن عهد الخليفة علي لمالك الأشتر يقدم مآثر في فلسفة الحكم وسيكولوجية الحاكم.ففي قوله (لا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم اكلهم..)، فانه يطرح مقياسا كاملا للعدالة فيه بعد سيكولوجي هو ان يضع الحاكم نفسه موضع المحكوم، فيكره له ما يكرهه لنفسه. والتقط حقيقة سيكولوجية بثلاث مفردات في قوله (اجتنب ماتنكر أمثاله)..اي عدم فعل مالا تحب ان يفعله الآخرون بك، ويذكّر الذين جاءوا الى السلطة من داخل الشعب انهم كانوا قبل ذلك يثيرون النقد ضد سيئات الحاكم السابق، فيدعوهم الى ان لا ينسوا مواقعهم النقدية السابقة فيصغوا الى النقد الآتي من القاعدة الشعبية..وتلك اثمن نصيحة لم يأخذ بها من جاء بهم (الشعب) الى السلطة بعد التغيير.فضلا عن نصيحة اخرى بقوله(ثم اختر للحكم بين الناس افضل رعيتك)، فيما حكّام الخضراء اختاروا من يكون رهن طاعتهم واستبعدوا افضل الكفاءات وانضج الخبرات، وعملوا بالضد من نصيحة أخرى بقوله(وانصف الله وانصف الناس من نفسك ومن خاصة اهلك ومن لك فيه هوى من رعيتك).ونصيحة اخرى بقوله (الأصغاء للعامة من الناس)فيما المتظاهرون يطالبون بالاصلاح ويصرخون من عشر سنوات وهم عنهم ساهون، ونصيحة اخطر بقوله(اياك والدماء وسفكها بغير حلها) فيما حكّام الخضراء سفكوا دماء مئات الشباب وما يزالون يسفكون.
لقد اراد الإمام علي في منظوره للحاكم ان يكون وثيقة تستقى منها المباديء التي ينبغي على الحكّام ان يهتدوا بها في كل زمان ومكان، وكان ينبغي أن يقتدي به قادة كتل واحزاب الإسلام السياسي الشيعي الذين يتباهون بانهم اخلص شيعته، فيما كان منظورهم هو الضد النوعي، يكفيك منها دليل واحد أن الإمام علي قال يوم تولى الخلافة:(جئتكم بجلبابي وثوبي هذا فان خرجت بغيرهما فأنا خائن)..وانظر لهم كم صاروا يملكون!