د. أحمد عبد الرزاق شكارة
إن طبيعة المسار المستقبلي للعراق تشير إلى أن بلادنا مرت وتمر بإزمات متراكمة ومعقدة جوهرها سياسي – اجتماعي - اقتصادي بل واستراتيجي تحمل بذات الوقت سمات قيمية - أخلاقية قيمية" معنوية " لابد من تشخيصها اولا ومن ثم الطلب من كل مهتم بالشأن العراقي بخاصة فئة المثقفين والمفكرين المتنورين تركيز الجهود للغوص بحثا عن إيجاد حلول ناجعة استثنائية هدفها علاج الازمات عموما والاخلاقية بخاصة كي تنهي المعاناة بصورة تنقله من حالة الضعف إلى مرحلة جديدة شعارها إنجاز متطلبات التنمية الانسانية الحضارية المستدامة تستند على حماية حقوق الانسان وصون كرامته .
إنطلاقا ،من محاولة دحض مقولة ما اشبه اليوم بالامس من المنظور الوعي الحضاري الانسني نرى أننا لازلنا بعد مرور ماينيف عن 29 عاما على وفاة رائد وأب الاجتماع السياسي الدكتور علي الوردي بحاجة لإستلهام وصياغة وعي سياسي - أجتماعي - اصلاحي حضاري متجدد مبدع لإفكاره ونهجه النابع من ضرورة التعمق بموضوعية وحيادية علمية للشخصية العراقية التي حتى الان تحفل بسجل حافل من التناقضات والصراعات الحادة على الصعد المجتمعية - السياسية بدءا من تقصي العملية" الديمقراطية " وتداعياتها التي بقدر مايشاع ويعلن أنها تساير التوازن الوطني للمكونات سياسيا وفقا للدستور إلا أنها وفي واقع الحال تكرس نوعا من" التعصب القبلي والقومي والطائفي والمحلي ، تعصب كثيرا ما تلون بشعارات سياسية وديمقراطية ، والتي تظهر بشكل أو بآخر بعدم أحترام الرأي الآخر ". تداعيات أخذت مسارها في ظل نظام للمحاصصة السياسية -الدينية - الطائفية - القومية التي أضحت سيدة الموقف حيث تركن غالبية الاحزاب والكتل السياسية التقليدية إلى خطاب شكلا سندا للعملية الديمقراطية وبقوة بينما الترجمة الحقيقية على أرض الواقع تشير إلى أن النظام الدستوري لازال يمر بمرحلة مخاض"انتقالية " لم تصل بعد إلى مرحلة نضج عنوانها الالتزام بإقامة دولة مدنية دولة مواطنة تتماهى مع قيم العادلة المطلوب تطبيقها وصولا للدولة المدنية الحديثة. .
لاشك بإن العلاقة بين السياسة والاخلاق تحمل جدلية فكرية شائكة لازالت بحاجة للمزيد من الايضاح والتعمق في مآلاتها وتداعياتها عبرعصور حضارات تاريخية مميزة سادت أوبادت وعلى راسها حضارة وادي الرافدين ، حضارة وادي النيل ، حضارتي الصين والهند ، الحضارة الاغريقية والحضارة العربية الاسلامية . مايهمني في هذا المقال التركيز على ابعاد الواقع السياسي - الاجتماعي - الاقتصادي العراقي في ظل إحتمائه بالخيمة الحضارية التي يرنو إليها شعبنا أن تترجم لمشاريع نهضوية - إنمائية إنسانية مستدامة وخدمية حيوية (صحة ـ بيئة - تعليم - تقنيات جديدة ابداعية -سياسة خارجية فاعلة متنورة تحمي سيادة العراق) . إن مشاريع الخدمات الحيوية العامة التي نراها على أرض الواقع حاليا خاصة في مجال النقل والاتصالات يمكن وبنجاح نسبي أن تحرك مياها راكدة منذ أكثر من عقدين تقريبا حراك لابد أن يتزامن مع إحكام التواصل الاجتماعي - الاقتصادي -الثقافي والسياسي - الدبلوماسي بصورة تؤكد تنمية أنسانية حقيقية في مختلف مناطق البلاد وصولا لنهضة حضارية شاملة لبناء عراق متجدد مبدع . تأريخيا يمكن الحديث عن بعض الامثلة المناسبة التي لاتكتفي فقط بتفهم أهمية الحاضر و المستقبل في حياة الشعوب بل وتؤكد أهمية إضفاء روح معنوية - أخلاقية مستدامة مثالية :" قصة الملك العراقي (كلكامش) الذي أخذ يبحث عن شجرة الخلود التي تضمن له المستقبل وتحول دونه ودون الموت الذي هو المصير المحتوم لكل حي ".
تماما كما" تخيل (افلاطون) جمهورية فاضلة تقوم على العدالة ، وتخيل القديس (أوغسطين) صراعا بين مدينة الله المبنية على أساس الفضيلة ومدينة الانسان المبنية على الغرور والشر وأفترض أن النصر سيكون حليف المدينة الاولى وعلى الناس أن يسعوا لتحقيقها ". علما بإن كتاب (توماس مور) الذي عرف بإسم اليوتوبيا ، طرح" تصورا مستقبليا للمجتمع المثالي والذي يخلو من أشكال الاضطهاد والظلم والانانية ". مسار معقد من الاحداث التأريخية التي حملت صراعات وتنافسات حادة جدا بين القوى الكبرى اقليميا ودوليا ودور للعراق لم تتضح معالمه بشكل دقيق نسبيا ، يقتضي منا ضروة إعطاء أولوية قصوى إستثنائية لإهتمامنا بتفهم ومعالجة الازمات الدولية من خلال إدارة ناجعة للحكم الرشيد Good Governance. ما أحوجنا ونحن نعايش عصر التقنيات الحديث سريع الايقاع أن نرصد كيف يمكننا إحداث نقلة نوعية حقيقية تعكس منظورا واقعيا - أبداعيا ثقافيا -روحيا بل وحتى سياسيا - دبلوماسيا واقع يتسق مع ثوابت ومتغيرات العصر خاصة في المحيط المعنوي (الاخلاقي - الثقافي) باعتباره اللبنة الاساسية لأي حديث مجدي عن الابعاد السياسية - الاقتصادية - الاجتماعية والعلمية - التقنية والتربوية .
يشير الدكتور علي الوردي بوضوح إلى أن البداية الحقيقية للتغيير الفكري والاجتماعي ترجع لعام 1906 عندما تحركت" الاذهان وحولت العراقيين من مرحلة اللاوعي السياسي إلى الوعي السياسي الحاد ". (ابراهيم الحيدري - علي الوردي -شخصيته ومنهجه وأفكاره الاجتماعية منشورات الجمل ، 2006ـص187). وعي غطى تفهم واقعي للشخصية العراقية في ظل جدلية البداوة والتحضر - التمدن- تحمل بصمات راسخة نسبيا في الوجدان الانساني عموما والعراقي بخاصة إذ رسخ تقاليد وقيم البداوة في إطار معادلة شملت البعد الحضاري - واقعي مضمونه" ازدواج الشخصية العراقية " إتساقا او تماهيا مع تصاعد حدة التنافس الستراتيجي - الحضاري بل وجيوسياسي (موضوع بحاجة للمزيد من التفصيل) . إذن لابد للعراقي في نهاية المطاف أن يسلك سلوك المضطر وليس المخير في تمثل وتقليد " نوعين من القيم واحدة لطبقة البدوي الغالب وأخرى لطبقة الفلاح المغلوب ". سياق وجد تطبيقه على الطبقة المدينية الناشئة التي تحملت اعباء وتداعيات تصاعد موجات مكثفة للهجرة من الريف إلى المدينة بصورة أدت لظاهرة سلبية تعرف ب" ترييف المدن ". من هنا، يمكن أعتبار مثل هذه الازدواجية مؤثرة جدا في منظومة القيم عاكسة سلوك جميع افراد المجتمع العراقي. السبب وفقا للوردي يرجع إلى" أن العراق كان منذ صدر الاسلام موطنا لعدد كبير من أصحاب التفكير الديني والمنطقي ، الذين طبعوا التفكير العراقي بالنمط المثالي . فالفرد العراقي مازال يفكر بمبادئ لايستطيع تطبيقها في الواقع ، وفي الوقت ذاته يدعو إلى أهداف لايقدر على الوصول إليها. ".من المتوقع إذن أن تحدث فجوات مجتمعية تخلق أزمات أخلاقية - معنوية متكررة ليس من الميسور تجاوزها بل وحتى تجسيرها خاصة إذا لم تتوافر جسور آمنة وسليمة لتجسيرها من قبل فئة الحكام" صناع القرار ". إن أي ضعف وهشاشة في بنية المجتمع العراقي لاتيسر أمكانية تحقق التماسك المجتمعي بل تجعل المجتمع العراقي برمته بطيفه التعددي معرضا لضغوط إنتماءات وولاءات ثانوية على حساب الانتماء والولاء الوطني ما يعرض السلم الاهلي للخطر عندها نكون أزاء محطات سائبة النهايات تسفر - إن لم تحل جذريا - عن تصاعد خطيرللازمات القيمية - الاخلاقية وهذا أمر ينطبق على جملة أزمات متنوعة تم توثيق بعضها قبل وبعد 2003 في المحيطين الداخلي والخارجي .
برغم ذلك نحن لازلنا بأنتظار دور فاعل لاجهزة التواصل الاجتماعي وآليات وتقنيات الاعلام الجديد التي تفضح الممارسات السيئة غير القانونية واللاخلاقية التي تخرق القوانين والانظمة بل وحتى القيم المعنوية المدنية - اللبرالية الراقية . وهنا لابد أن نشير بأن ما ألف حتى الان من لجان تحقيقية للكشف عن المستور من خفايا أحداث صادمة للمجتمع العراقي في الاطار المؤسسي في مختلف المجالات الحياتية وصل لطرق شبه مغلقة. بمعنى لم يعد من الامر مفرا من أولوية حماية شعبنا من مخاطر جرمية- إرهابية - داعشية اوغيرها تابعة لما يعرف بالجرائم الجماعية المنظمة مثل الاتجار بالبشر وبالمخدرات وغيرها من آفات بيئية - مجتمعية على المستويات الوطنية ، الاقليمية والدولية . من هنا كان لزاما من الدولة العراقية بكافة مؤسساتها تقديم كل انواع الدعم المادي والمعنوي لكل الجهات الرسمية وغير الرسمية محليا ودوليا (تنمية علاقتها مثلا مع بعثة الامم المتحدة التي تحقق في جرائم داعش) واخرى تعنى بمحاربة آفات مجتمعية - سياسية - اقتصادية ـأو ثقافية . اقوال أخرى تعزز ما اشار إليه الوردي في كتابه المهم جدا وعاظ السلاطين حقيقة مفادها وثقها تأريخيا وهي : ان المنطق الاجتماعي الحديث لايميز بين الناس حسب مطامعهم وأغراضهم ، وإنما يميز بينهم حسب الجبهة التي ينتمون إليها في تأييد الوضع القائم أو في معارضته ". سياق أطلق العنان لانقسامات داخل التكتلات والاحزاب . صحيح الامر ليس جديدا ولكن جذوره المتراكمة تعكس خلافات عميقة محورها مزيدا من أزمات اخلاقية - معنوية . ضمن هذا السياق ايضا واجه العلامة الدكتور علي الوردي منتقديه الذين قالوا بإن فرضيته في إزدواج شخصية الفرد " حسب رأيهم تضر بالمجتمع العراقي أكثر مما تفيده ، لأن التركيز على عيوب الشعب قد تجعله ضعيف الثقة بالنفس ". اجاب الوردي إجابة واضحة افحمت منتقديه متفقا في جانب ومختلفا في آخر :" أن التطرف في إتباع - هذه المقولة - قد يكون مضرا ايضا . فإذا كان البحث عن عيوب الشعب يضعف ثقته بنفسه فقد يكون التكتم على تلك العيوب والتسترعليها مضعفا له ..إذ يؤدي إلى الطيش والحماس الزائد .. أن العدو الكامن في داخل النفس ربما يكون أشد خطرا من العدو المتربص لها في الخارج ". (ابراهيم الحيدري ، المرجع السابق ، ص 127). أخيرا يؤكد الوردي مقولة لازالت اصدائها تتردد :" أن تاريخ المدينة ليس إلا تاريخ النزاع بين المؤيدين والمعارضين . أولئك محافظون وهؤلاء مجددون. والظاهر أن النصر النهائي هو من نصيب المجددين إذ أن على اكتافهم تقوم الديمقراطية الحديثة " .