ثائر صالح
الجزء الأول: الجذور
كان الموسيقي المجري البارز بيلا بارتوك (1881 - 1945) من بين أوائل الباحثين الذين وضعوا أسس علم الموسيقى الشعبية (Ethnomusicology)، وكان هذا العلم يسمى سابقاً بعلم الموسيقى المقارن لغاية منتصف القرن العشرين.
ظهر هذا العلم في أواخر القرن التاسع عشر وكان المقصود منه دراسة موسيقى شعوب المستعمرات من قبل الأوروبيين، مع وجود أمثلة على دراسة الموسيقى الانكليزية والاسكتلندية والبولندية في فترات مبكرة، أو على الأقل محاولات تجميعها وتدوينها. لكن يمكن اعتبار بارتوك وزملاءه زولتان كوداي (1882 - 1967) ولاحقا لاسلو لايتا (1892 - 1963) والروماني كونستانتين برايلويو (1893 - 1958) من أوائل الذين جمعوا ودرسوا موسيقاهم الشعبية الخاصة بهم، وموسيقى الشعوب المجاورة لهم بشكل واسع، وهذا أمر أعطاه بارتوك أهمية استثنائية. استعمل بارتوك منهجاً علمياً دقيقاً في عملية التجميع التي مرت بمراحل عديدة: البحث عن المصادر الموثوقة، تسجيل الأغنية بالفونوغراف، تسجيل نص الأغنية، توثيق معلومات تفصيلية عن المصدر مثل العمر والمهنة والنشأة (البيئة الجغرافية) وممن سمع أو تعلم الأغنية، ثم تدوين اللحن وكل ما يتعلق به قبل الشروع بتحليله ومقارنته بالمادة المتوفرة في بنوك المعلومات (وهي الكتب المتخصصة والدراسات في المجلات العلمية حسب التطور التقني في ذلك الوقت). وكان بارتوك يجد في كل هذا متعة تعوض الجهد والتعب الذي يعنيه القيام بالمسح الميداني في أماكن لا تصلها المدنية على الغالب.
يقول بارتوك: "الموسيقى الشعبية هي كائن خلقته الطبيعة … تطور هذا المخلوق مثل باقي مخلوقات الطبيعة بشكل عضوي وحر: مثل الزهور والحيوانات ونحوها. لهذا السبب بالذات فهي رائعة وكاملة بنفس القدر… إنها تجسيد نقي للفكرة الموسيقية يثير الدهشة من ناحية التعبير المكثف للشكل وقوة التعبير والتعامل المقتصد مع الوسائل المتوفرة من جهة، ومن جهة أخرى بسبب حيويتها وتأثيرها المباشر" (من مقالة "عند ينابيع الموسيقى الشعبية " 1925).
بدأ بارتوك تجميع الموسيقى الشعبية المجرية في منطقة سيك في ترانسلفانيا في 1905، ثم بدأ بتجميع ودراسة الموسيقى الشعبية للسلوفاك والرومان الذين يعيشون في المناطق القريبة إلى جانب الأغاني والموسيقى الشعبية المجرية منذ سنة 1906. استمر هذا العمل الدؤوب لغاية نهاية الحرب العالمية الأولى لكنه توقف بسبب تقسيم المملكة المجرية وتوزيع ثلثي الأراضي التي كانت تابعة لها ضمن الإمبراطورية النمساوية على دول الجوار، ومعها تجمعات سكانية مجرية استقرت هناك منذ أكثر من ألف عام (بالخصوص في رومانيا ومولدافيا). كانت هذه التجمعات القروية المجرية تمتلك أهمية استثنائية لأن الطبقات الأكثر قدماً وأصالة في التراث الموسيقي المجري لا تزال حية لديها، نجد فيها العناصر التي ترجع إلى فترات التعايش مع الشعوب التركية والإيرانية في سهوب وسط آسيا قبل قدوم المجريين إلى حوض الكاربات حيث يعيشون اليوم. وقد ساعده تجميع هذه المادة القديمة في تجميع التراث الغنائي والموسيقي الشعبي في الأناضول لاحقاً بشكل كبير. قام بارتوك كذلك بمسح ميداني في شرق الجزائر سنة 1913 كما أشرت في كتابة سابقة.
أما رحلته إلى تركيا في 1936 فجاءت بعد فترة من الانقطاع عن المسح الميداني، زار فيها اسطنبول وأنقرة حيث ألقى محاضرات في جامعتها وقدم حفلات موسيقية قبل أن يتجه إلى المنطقة الممتدة بين أدنة وعثمانية لتجميع المادة الموسيقية.