اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > معتمد أدبي أم تقليد أدبي؟

معتمد أدبي أم تقليد أدبي؟

نشر في: 6 إبريل, 2024: 11:04 م

د. نادية هناوي

تقدم الباحثة أتيلا سيمون في دراستها(ابتكار ربات الإلهام في إيون لأفلاطون) قراءة نقدية لطبيعة الابتكار في انشاء محاورة افلاطون القصيرة المسماة (ايون) من ناحية تحديد موقع القوة في ثنائيات الحضور والغياب والعقلانية واللاعقلانية.

واختارت من المحاورة الجزء الاوسط الذي فيه يقدم افلاطون وجهة نظر تتوافق مع منظور سقراط للإلهام الرباني من خلال سرد قصة خلق تينيشوس الشاعر الفاشل بسبب قصائده التافهة باستثناء واحدة نجحت وانشدها الجميع على نطاق واسع ووصفها سقراط بانها" اجمل قصيدة غنائية على الاطلاق. انها ببساطة تبتكر ربات الالهام" وهذه العبارة الاخيرة لفتت انتباه الباحثة فدققت فيها عبر التركيز على محاورة ايون ومحاورات اخرى مثل فايدروس، ووجدت أن افلاطون فسّر الابداع الشعري على نحو مماثل لتفسير سقراط وهو ان الابداع حالة الهام رباني، لا تحتاج الى المعرفة والاتقان.

ووفقا لأفلاطون فان الوعي الذاتي شرط في العمل الابتكاري للشاعر أي ان لا ابتكار مع فقدان العقل أو الجنون. وكان سقراط قد رأى أن الشاعر لا يكون مبتكرا الا بالإلهام الذي يجعل الشعراء يتحدثون بلا عقل لان ربة الالهام استولت على عقولهم، فالشاعر تينيشوس نطق بصوت الالهة، فكانت قصيدته استثنائية ينشدها الجميع وهذا هو الابتكار. وترى الباحثة سيمون أن الابتكار هو التفكير في شيء جديد وغير متوقع، اصله يعود الى ربات الشعر بوصف الشعر هبة الهية تأتي بها ربات الشعر وتعلمها لمن تشاء من البشر. ومن ثم يكون الشعر الهاما من جهة ومن جهة اخرى ابتكارا من ابتكارات العقل البشري. واستمر هذا التفسير قائما من الاوديسة الى اعمال بندار فكانت ابتكارات الشاعر توصف بعبارات معينة منها(أن يكون عالما في مجال معين) أو (يكون ماهرا في شيء ما) أو (يكون خبيرا في شيء ما) وفي القرن الخامس صار الشعراء يشيرون الى انفسهم بوصفهم مؤلفين أو مبتكرين بينما كانوا في زمن افلاطون يقدمون انفسهم على انهم رجال حكماء.

وغني عن القول إن الالهام طريق الى ابتكار الاوصاف والاستعارات والاتجاهات والحركات، ويحصل بشكل لا واع كهبة ربانية، فيها الابداع يخضع لقوى غيبية لكن ذلك لا يعني البتة أن ليس للوعي الذاتي دور وحضور، بل هو قائم وممكن في ما تركه الأسلاف من تقاليد، منها يستلهم الكاتب ابداعه فأما يكتفي باتباع التقاليد وتكرارها أو يسعى الى الابتكار فيها وتطويرها.

ولقد طمست الهيمنة الاستعمارية قرونا من التأثير العربي في اسبانيا ومن بعدها اوروبا فغدت التبعية سيفا مسلطا على كثيرين يوجب عليهم أن يغضوا من قدرهم، ويغبنوا تراثهم وما فيه غنى أدبي قديم وحديث في حين نجد عددا من المثقفين الاسبان درسوا الثقافة الاسلامية، فشعروا (بفداحة الظلم الذي وقع على الحضارة العربية الاندلسية..اخرهم الكاتب القصصي الشهير خوسيه ماري خيرونيلا اصدر كتابا عن الاسلام) وبالمقابل ادرك السير فرانك كيرمود(1919ـ 2010) أهمية التقاليد وخطرها فدعا إلى تقويض مقومات استمرارها، بقوله:(إن التقاليد الادبية التي تنفي التمييز بين المعرفة والرأي والتي هي بمثابة ادوات بقاء شيدت لكي تقاوم الزمن تكون بالطبع قابلة للتفكيك اذا كان الناس يظنون انه لا حاجة الى اشياء كهذه فانهم سيجدون السبل الكفيلة لهدمها. ولا يمكن ان تتولى الدفاع عنها قوة مؤسسة مركزية ولن تكون بعد الان الزامية)

ولا يحتاج كيرمود ان يحدد طرائق تفكيك التقاليد وهدمها لان هذا امر تكفل به الحاضن الغربي الحداثي وما بعد الحداثي الذي لا يكاد يبرأ من العقدة الاستشراقية والتذمر من كل ما يمت بصلة لحضارات الشرق، متحسسا من أنظمته الثقافية تحسسا كبيرا. ولأهمية المسافة المعرفية بين التقليد والابتكار ولأن التقليد الأدبي يرادف المعتمد الأدبي literary canon وصاغه المنظرون الغربيون ليكون خاصا بأدبهم ونقدهم، لذا نرى في هذا الترادف تعقيدا، يوجب تداول مفهوم التقليد بديلا عن المعتمد الادبي على المستويات الثلاثة: الممارسة – التنظير – الترجمة. اما الدواعي فهي كالاتي:

اولا: ان التقليد الادبي مجموعة نصوص محددة لمجموعة مؤلفين وبأنواع كتابية معروفة ومراحل تاريخية معلومة. ومن ثم لا ينحصر التقليد في مجموعة نصوص يكتبها بيض أوربيون ارستقراطيون وبرجوازيون كما لا يتحدد بنطاق عملي يختص بسياق تعليمي او دراسي أدبي في جامعات ومدارس غربية، بل التقليد يقع في صلب العملية الابداعية وهو جزء من فاعلية أي كاتب او اديب في أي مكان في العالم.

ثانيا: دينامية التقليد الادبي تجعله غير مخصوص بفئة عمرية معينة ولا محصورا في صنف ابداعي واحد، بل هو يشمل الفئات العمرية كلها ويتجسد في مختلف صنوف الكتابة الابداعية.

ثالثا: ان الرسوخ الذي هو سمة التقليد الادبي يجعل النصوص الأساسية المتفق على جودتها وعالميتها، شاملة الكلاسيكي وغير الكلاسيكي، القديم والمعاصر، الغابر والراهن.

رابعا: أن التقليد الادبي يقوم على المعيارية التي تترشح من مجموع النصوص التي تملك الاصالة المختبَرة فاعليتها عبر التاريخ وعبر الجغرافيات وليس مجرد عملية انتقاء نصوص معينة ضمن مراحل تاريخية وجغرافية محددة.

خامسا: خصوصية التقليد الادبي هي التي تجعله عالميا لا يتقوقع في جغرافية او قومية او لغة او معتقد، ومن ثم لا شرعية لأي تقليد لم يتجاوز نطاقه المحلي ولا ترك أثرا خارج محيطه الاقليمي.

سادسا: أن التقليد الادبي يملك جواز مروره من تلقاء ذاته، فيعبر القارات والثقافات من دون معوقات او مهددات تقتلع جذوره او تشوه جوهره. ولقد اكد تفاعل الادب مع التكنولوجيا الحديثة هذه الحقيقة فالتقليد الادبي شاخص وملحوظ، وهو ما فطنت اليه دراسات الأقلمة، فاكتشفت من ثم هفوات التناص وموت المؤلف.

سابعا: أن مفهوم التقليد الادبي يختلف تماما عن مفهوم "التناص" الذي يعني مجموعة العلاقات النصية التي يقيمها النص مع نصوص أخرى بلا اباء مؤلفين. فالتقليد يتعدى النص الى عمق الفاعلية الابداعية حيث الجذور الثقافية تتمثل في النصوص الاصلية كما ان التقليد ليس تقانة كالمحاكاة الساخرة او الرمز بل هو فاعلية ممتدة ومتحصلة كمستويات وخلفيات وتصورات انتجها مؤلفون معلومون او مجهولون.

ثامنا: أن للتقليد الادبي قيمة اعتبارية الى جانب قيمته الأدبية لكونه ناقلا للإرث الشفاهي والكتابي ومحافظا عليه عبر الأجيال. فالتقليد خزين لأمهات الكتب وعبره تستمر الآداب في قوتها.

تاسعا: أن استمرار التقليد الادبي منتقلا عبر الأجيال، يؤكد جودته العالمية واختلافيته الثقافية معا، وهذه السمة الاخيرة فيها تتجلى خصوصية الهوية.

عاشرا: أن التقليد الادبي يستجيب له الادباء وتكترث له النظرية الادبية ويهتم به النقاد، وهو ما يعطيه سمة جماعية كقيمة إنسانية مشتركة وتراث غابر يحفل بالغنى ومؤهل للاتباع ومحفز على المعاصرة وتطوير الكفاءة في ابتكار الجديد من التقليد الادبي. وهو امر يتوقف على مدى الوعي الفردي والجمعي بالإرث التاريخي والفكر الانساني.

حادي عشر: أحد التحديات التي تواجه مفهوم التقليد الادبي تأتي كما يقول مايك فلمنك من(الأفكار المتنازع عليها حول طبيعة الأدب نفسه التي نشأت مع بداية ستينيات القرن الماضي والمشككة بفكرة أن المؤلف هو منتج النص وأن للتقليد سلطة موضوعية وتاريخية بأعمال مؤلفين سابقين ضمن سياقات ثقافية وتاريخية معينة)

ثاني عشر: لا مجال لإلغاء التقليد الادبي أو ازالته فهو مرجعية لوحده، وفاعليتها تتجلى بطريقيتين: الاولى اتباعية بالسير على المنوال، والأخرى ابتكارية بالتطوير والاضافة. وبهاتين الطريقتين يبقى التقليد محصنا في جوهر خصوصيته وفاعلية عالميته.

لهذه الاسباب وغيرها يصبح مفهوم التقليد ذا دلالات وعناصر شمولية اكثر مما تعنيه مفردة المعتمد، بوصف التقليد نهجا ترسخ ادبيا فصار جزءا من أي نظرية تريد تفسير الأدب وفهم فاعليته الابداعية شكليا وموضوعيا فلا تستبعد المؤلف ولا تهمل السياق التاريخي أو الثقافي مع الاعتراف ايضا بالقارئ واهمية استجاباته الجمالية ودوره في فهم وتأويل الادب من دون تعصب لثقافة او انحياز إلى لغة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

وزير الداخلية في الفلوجة للإشراف على نقل المسؤولية الأمنية من الدفاع

أسعار الصرف في بغداد.. سجلت ارتفاعا

إغلاق صالتين للقمار والقبض على ثلاثة متهمين في بغداد

التخطيط تعلن قرب إطلاق العمل بخطة التنمية 2024-2028

طقس العراق صحو مع ارتفاع بدرجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram