طالب عبد العزيز
أولئك الذين يأكل أرواحَهم الاملُ ما اشفق الرَّبُّ عليهم! وما الطفه بهم، وإن لا يبدو الاملُ متحققاً في المدى القريب. تلتقط الكاميرا على الجادة بفلسطين وجه شيخ، طاعنَ السنوات كثيراً، أشيبَ حزين، فيسأله صاحب الكاميرا عن حزنه، يصمت لحظة ويجيب: لو كنتُ حزيناً على نفسي لسهل الامرُ، لكنني أحمل حزن آخرين، مازالو يحلمون بالعودة الى ديارهم، التي بغزة، والتي بفلسطين ايضاً. ثم يؤكد سأرجع وسيرجعون!!
من ما ظلَّ من قسمات وجهه التي طمرها الشيب يلوحُ هناك خيطُ، لا يكاد يُرى، ولا يتبينه إلا العارفُ العليمُ، خيطٌ، أوهمٌ، نصفه أملٌ ونصفه يأسٌ، الربُّ وحده هو القادر على تبيان الفارق بين زنة هذا وذاك، لكنَّ الشيخ لم يبرح مكانه جالساً، بأمله وحزنه ذاك، لا يستطيع تأكيد ونفي ما هو عليه، وفيما كانت الكاميرا تبتعد، تبحث عن وجه آخرَ أكثرَ أملاً أو أقلَّ يأساً ظلَّ ساهماً، لعله ينتظر سؤالاً أو إجابةً، فالمسافة بين السؤال والاجابة هنا ستبقى عميقةً، ذلك لأنَّ الربَّ وحده هو القمين بهذه.
على وفق الفلسفة فأنَّ الامل يتحقق بالممكنات الموضوعية، وهناك جملة اسباب تمكّنه من التحقق، فالارادة البشرية والرغبات ليست كافية هنا، لكنه يتحقق بافتراض المساهمة المستقلة في المنطق العملي، وبما لا يشوه الإرادة العقلانية. ويتجلى التقييم المتناقض للأمل أيضًا في نسخة هسيودوس من قصة باندورا، عندما فرَّت كلُّ الشرور من جرّة باندورا فإن الأمل وحده من بقي في الداخل. لهذه وتلك، سيكون الحديث ممكناً إذا ما تناول أحدنا ذلك داخل دائرة الشعر والفن، فقد يوجزُ شاعرٌ أو فنانٌ ذلك لنا، ونتحسسه، فالحروف والالوان والظلال قادرةٌ على إيصال اصعب الاخيلة، وأنآها عن التحقق. لكنْ ألم يكن الاملُ جرعة المورفين التي لن تدوم طويلاً عند من أدمنه.
من وجهة نظر شخصية فأنَّ أسوأ الأكفّ، هي تلك التي تذهب بكليتها الى السماء، طالبةً ما تريده، بعيداً عن إرادة أصحابها. لكنْ، مالذي يفعله رجلٌ أتى الشيبُ على تعابير وجهه، ولم يبق منها إلا رفةَ الجفن واستدارة العين؟ وما هي قدرته في المقارعة، التي تضافرت شرور الدنيا على هزيمتها؟ وكيف سيفكّرُ رجلٌ طاعنٌ بالامل مثله في العودة الى بيته، التي هدتها الطائرات؟ ومن يجرؤ على زرق جرعةِ أملٍ فائضةٍ أخرى في عروقه التي يبستْ بالعطش والجوع والانتظار؟ الامل هنا هو اليأسُ المطلق. كيف لا؟ وقد أغلقَ الخائرون والجبناء والمطبعون نوافذ الربِّ بخسة أفعالهم، وحال دون ذلك كلُّ حائل!
يعرّف سبينوزا الأمل كشكلٍ من أشكال المتعة، وإنْ لم يكن للعقل دور فيها. وقد اختلط الأمل عنده بالحزن، بسبب من شكِّ الإنسان في قدرته على تحقيق ما تأمله، ولأنه سبينوزا فأنَّ الناسَ المحكومين بالأمل هم ضحايا سهلة للخرافات والمعتقدات الخاطئة. لذا، لنْ أخجلَ من نفسي لأنني لم أكتبْ قصيدةً عن ما يحدثُ في غزّة، ولم أشعر بالرغبة في ذلك فالشعر عندي هنا خورٌ وجبنٌ وضعف، ولن يكون في مثل الحالة هذه أكثر من شتيمة شخصية، ولا أجني على نفسي إذا ما قلتُ بأنَّ ما نكتبه من شعر سيرتد بصاقاً على وجوهنا! إذْ كل فعل ثقافيٍّ وفنيٍّ هو خيانةٌ ما لم يقرن بفعل عقلي وعملي على الارض. سيبدو واضحاً، بل أكثر وضوحاً ذلك الخيط، الوهم الذي يفصل بين الأكفِّ الخائنة التي ترفع للسماء والمخلصة التي تمسك بالبندقية، فهي الوحيدة القادرة على تحقيق الامل. هذا كونٌ قبيح والغلبة فيه للقوي.