ثائر صالح
بالتزامن مع بدء بارتوك بتجميع الموسيقى الشعبية المجرية وتسجيلها على اسطوانات الشمع، أسس الباحث الإثنو موسيقي أريخ فون هورنبوستل (1877 - 1935) أرشيف برلين للفونوغراف (Berliner Phonogramm-Archiv)
وهو مركز لتجميع تسجيلات الموسيقى الشعبية من مختلف أنحاء العالم. ونشأت بين الرجلين علاقة تعاون في 1912 بعدما أرسل بارتوك مجموعة من التسجيلات الموسيقية الرومانية إلى برلين، طالباً بالمقابل إرسال تسجيلات للأغاني الشعبية التونسية بعد اطلاعه على بحث هورنبوستل في دورية موسيقية متخصصة، كما طلب منه إرسال اسطوانات جديدة حتى يستعملها في رحلته الجزائرية سنة 1913 (انظر التفاصيل حول الرحلة في عدد المدى 17 آذار الماضي). ولخص بارتوك تجربته الجزائرية بالشكل التالي:
"ما نعرفه عن الموسيقى العربية من مختلف المطبوعات هو ليس الموسيقى الشعبية بالتعبير الدقيق، بل موسيقى العرب في المدن، وهو بالتأكيد من بقايا الموسيقى العربية القديمة الكلاسيكية التي وصلت إلينا عبر التناقل الشفاهي بسبب عدم وجود طريقة للتدوين الموسيقي. في دراستي هذه لا أتطرق سوى إلى الموسيقى الشعبية، أي موسيقى الفلاحين التي تختلف عما ذكر أعلاه بشكل جوهري".
ساهم بارتوك في مؤتمر القاهرة الشهير سنة 1932، ولربما كان هو وفون هورنبوستل الوحيدين بين الحاضرين ممن اهتم بذلك الفرع من الموسيقى، أي الشعبية، التي اعتبرها الجميع متخلفة وليست مهمة. وعثر بين مسوداته على مخطط لورقة عمل باللغة الفرنسية حول الموسيقى العربية اقترحها على الحاضرين، نلمس صداها في وثائق المؤتمر. تذكر المسودة الأهمية القصوى لطبقة الموسيقى الشعبية بشكل تفصيلي، وتتطرق إلى خطة وطريقة لتجميعها وتصنيفها في نفس الوقت. تتناول الورقة تفاصيل كثيرة، بينها مشكلة التناقض بين اتجاه كتابة اللغة العربية مع اتجاه سير التدوين الموسيقي - النوطة في حالة تدوين النص مع الموسيقى، وتدعو إلى استعمال نتائج تجميع الموسيقى العربية الشعبية في تطوير الموسيقى العربية المعاصرة.
أسهم بارتوك وفون هورنبوستل في لجنة التسجيل التي رأسها روبرت لاخمان (1892 - 1939) بسبب اهتمامهما بتوثيق الموسيقى الشعبية. قامت لجنة التسجيل باختيار الفرق التي يجري تسجيل أعمالها، ونلاحظ تأثير الرجلين عند اختيار تسجيل "فرقة من العازفين عزفاً بلدياً من القاهرة" وتسجيل "مغنيات (عوالم) من القاهرة" وتسجيل "طبل ومزمار بلدي من القاهرة" وتسجيل "زار (غناء ورقص)" وتسجيل "مغنين ريفيين من الفيوم"، إلى جانب سماع فرق الدول العربية وعزف الأستاذ مسعود جميل بك الطنبوري (1902 - 1963) الذي درّس في معهد الفنون الجميلة في بغداد لاحقاً.
وقررت اللجنة بالإجماع "عظم الأهمية التي تستفاد من الموسيقى الريفية ومن الأغاني المرتبطة بالحياة العامة… (أغاني أوقات العمل وأغاني الملاحين والباعة في الطرق)... والبحث عن هذه الموسيقى في الأرياف وبين القبائل الرحل.." ووضعت توصيات بالغة الأهمية نلمس فيها الكثير مما اعتاد بارتوك شرحه في دراساته وكتاباته حول قواعد تجميع الموسيقى الشعبية. وتضمّن تقرير اللجنة إلى المؤتمر هذه التوصيات والآليات نجدها في الصفحات 93 - 110 من وثائق المؤتمر.