اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > الحيوان والسرد غير الواقعي

الحيوان والسرد غير الواقعي

نشر في: 13 إبريل, 2024: 09:24 م

د. نادية هناوي

تتنوع نصوص سرد الحيوان، وأقدمها وأكثرها انتشارا هي نصوص السرد غير الواقعي، وفيها يكون الحيوان –ساردا أو مسرودا- شخصية مؤنسة تعيش في عالم خاص بها على وفق سيناريوهات مستحيلة واقعيا لكنها محتملة سرديا.

ومعلوم أن تاريخ سرد الحيوان يعود إلى الحكايات الخرافية والشعبية والقصص التي تُحكى على لسان الحيوان. وما من حكاية إلا وفيها الحيوان فاعل سردي يسعى إلى حاجة ما قبل أن يكون محملا بقصد رمزي؛ فإشباع الحاجة يعني القدرة على البقاء في مواجهة القدر من خلال التنبؤ بما هو آت من وراء المجهول. ومن ثم يكون طبيعيا اجتماع الاستحالة بالإمكان والتصديق الذي فيه يتوافق العقل مع التخييل فيغدو اللامعقول معقولا.

وشهد سرد الحيوان في الأدب العربي القديم، تطورا واضحا على مستوى الغايات لا بمعنى الدفاع عن الحيوان أو الإحسان إليه والرفق به، فهذا في العموم قليل، بل من ناحية واقعية ما يراد توصيله من غايات تخص الإنسان وتصب في صالح قضاياه الحياتية وما يعانيه من أزمات نفسية ومشكلات اجتماعية يعتمد تحصيلها على ما تحمله نصوص سرد الحيوان من طاقة مجازية بتشفيرات رمزية ومحمولات شعرية. وتتنوع الأمثلة على النصوص التي غايتها واقعية أخلاقية أو سياسية مثل حكايات كليلة ودمنة وحكايات الامير مرزبان وقصة الاسد والغواص ومنطق الطير والحكايات الشعبية والقص الصوفي وغيرها.

ولم يتغير الامر في السرد العربي الحديث كونه اتبع تقاليد السرد القديم، فكان الحيوان رمزا يسعى الكاتب من وراء توظيفه إلى بلوغ غايات واقعية كما في (غابة الحق) 1865 لفرنسيس فتح الله مراش. والكتاب أقرب إلى أن يكون رواية رمزية مبنية على طريقة التوالي السردي وبثماني قصص بطلها واحد هو السارد واسمه(الراوي) والموضوع الذي يتناوله يدور حول شروط إقامة مدينة فاضلة من خلال تمثل عالم الطبيعة(إن الغاية الوحيدة للطبيعة هي قبول ما يناسبها لقيام حياتها ودفع ما يستنزل عليها صاعقة الموت بمغايرته لها ولو كان صادرا عن ذات فعلها. ولا شك إذا نظرنا إلى العمل البديهي الذي تصنعه الحيوانات بتنظيف ذواتها تأخذه دليلا على ضرر القذارة ووجوب النظافة ومثالا يقتدي به كل متغافل إذ أن الحيوان لا يفعل إلا ما ترشده الطبيعة إليه طلبا لما يصلح شأنها ودفعا لما يفجع بها).

وعلى الرغم من طغيان التأمل الفلسفي على حساب البناء السردي للأحداث والشخصيات، فإن استعمال ضمير الانا منح السرد الذاتي درامية تخللتها مشاهد تصويرية تعكس مناظر الغابة وجمال طبيعتها وتنوعها(ولما غمرتني لجج الرقاد وجدت ذاتي اتخطر في برية واسعة وكان يظهر لي عن بعد غابة عظيمة ذات أشجار ضخمة عالية بأغصان متكاثفة الأوراق ملتفة بعضها على بعض) ويقود هذا الانبهار السارد نحو محاكمة بعض مظاهر المجتمع البشري من خلال مقارنتها بالمجتمع الحيواني، ومن ذلك مثلا العبودية، فيجد أن(ليس الإنسان وحده ينفر طبعا عن هذه الغلبة، بل أكثر الحيوانات أيضا على أنه متى عارض حركة أميالها مانع ما، ظهرت عليها حالا دلائل الانزعاج والمدافعة فلا يبرح الأسد الواقع في القفص يزأر ويضج حنينا إلى الغاب والعرين ولا يزال النمر الموثق بالسلاسل يصرخ ويعج رغبة في الوثوب الى اعالي الجبال ولا يفتر الكلب يهرُّ وينبح طالما يكون مسجونا ولا ينفك الطائر المأسور في القفص يخفق ويصيح شوقا للطيران الى رؤوس الشجر وهلم جرا. فاذا كان الحيوان العديم النطق لا يتحمل مضض الرق ولا يصبر على ضنك الاستعباد فكم يكون الإنسان الناطق خليقا بعدم احتمال هذه المشاق عندما يقع في شراكها وجديرا بطلب المناص)

واستمر السرد العربي الحديث في القرن العشرين يسير على هذا المنوال من اللاواقعية في سرد الحيوان، ففي مجال كتابة الرواية نجد أن(المحالفة الثلاثية في المملكة الحيوانية)1903 لأمين الريحاني مثال متقدم، ولقد هدف من وراء أنسنة الحيوان إلى غرس الوعي والتثقيف بأهمية التطور ومواكبة التحديث. ونزعم أن جورج اورويل كتب روايته (مزرعة الحيوان) لا تأثرا بجاك لندن كما يذهب إلى ذلك كثير من الباحثين، بل تأثرا بالريحاني الذي كان وقتذاك معروفا في أوروبا وأعماله منشورة باللغة الإنجليزية.

ومن أوضح الأمثلة على الاتجاه غير الواقعي في سرد الحيوان على مستوى كتابة القصة القصيرة تتمثل في كتاب(جنة الحيوان)1950 لطه حسين وفيه يتجلى النزوع غير الواقعي في توظيف الحيوان سواء من ناحية أنسنته وجعله متكلما أو من ناحية أضفاء صفات البشر وطباعهم عليه. فتكون الفاعلية السردية في كل قصة مسندة إلى حيوان من الحيوانات التي لها في الذاكرة الجمعية صفات وصور دلالية معينة، فالثعبان مثلا له في هذه الذاكرة صور سلبية، لذا وظفه طه حسين في قصة تحمل اسم الثعبان مصورا إياه إنسانا يتطبع بالمراوغة والنفاق فلا يُرى منه إلا ما يريد هو أن يراه الناس(كنت تراه في مجالس المعتدلين يسمع منهم ولا يرد عليهم إلا قليلا وكنت تراه في مجالس المتطرفين يسمع منهم ولا يجاريهم إلا بمقدار وكنت تراه في كل حفل يقيمه المعتدلون وفي كل حفل يقيمه المتطرفون يشهد الحفلين جميعا.. ولكنه كان ماهرا أشد المهارة في الاستخفاء حين الجد.. يلتمس القوم صاحبنا فلا يجدونه) وتنتهي القصة كما بدأت بالثعبان وهو على عهده مشرق الوجه، باسم الثغر، خفيف الحركة، عذب اللفظ وقد تمكن من بلوغ المأمن وقضاء المأرب.

وإذا كانت الأقلمة في هذه القصة قد طورت تقليد الفصل والوصل فغدت الحبكة قوية والوحدة العضوية جلية، فإن الأقلمة العامة في قصص الكتاب تتمثل في تطوير قالب القصة إلى ما يشبه الحوارية باستعمال فعلي(قال وقلت) ما بين طرفين اثنين؛ أحدهما بشري والآخر حيواني. وعادة ما يشير طه حسين إلى الطرف البشري بمسمى(صاحبنا) ومقصده الوعظ والتنبيه إلى ظواهر المجتمع المصري وانتقادها وإصلاحها. وهو ما نجده في قصة(حديث الإوز) وفيها يؤقلم طه حسين تقليد الحكاء ليكون ساردا بطلا بضمير المتكلم حينا والخطاب حينا آخر ثم يتحول إلى سارد عليم فتتنقل البطولة إلى الإوزة كشخصية فاعلة كنيتها أم خفيف، وتجتمع فيها صفتان متناقضتان هما العجب والحماقة. ويساهم التناص مع قصة ابن شهيد الأندلسي - والإوزة بطلة أيضا - في زيادة التعريض بشخصية (صاحبنا) مؤكدا في الآن نفسه أصالة توظيف الحيوان عنصرا سرديا (قالت السيدة متضاحكة: ليكن صاحبنا إوزة أو دجاجة أو ما شئت من ذوات الأجنحة والريش ولكن حدثني عن هذا البدع الذي أخذت فيه منذ حين فقد جعلت لا أسالك عن احد إلا ضربت له من الحيوان مثلا، قلت: وأي بدع في ذلك يا سيدتي؟ إنما هو فن قديم من فنون الأدب أليس العرب قد شبهوا الإنسان بالحيوان منذ أول الدهر أليس الله عز وجل قد شبه بعض الناس بالكلب الذي إن تحمل عليه يلهث وإن تتركه يلهث؟ أليس الله عز وجل قد ضرب الحمار الذي تحمل عليه الأسفار مثلا للذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها.. والله لم يخلق الأشياء عبثا وإنما جعل فيها لنا منافع ودعانا إلى أن نعتبر بكل ما خلق من الحي والميت وأن نلتمس فيه الموعظة التي تبصر القلوب) والذباب في قصة(مدرسة الذباب) هو الفاعل الذي يملك عقلا(يفتق الحيلة ويحسن التماس الوسائل ويمكّن صاحبه من التلطف وحسن التأني للعسير من الأمر).

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

وزير الداخلية في الفلوجة للإشراف على نقل المسؤولية الأمنية من الدفاع

أسعار الصرف في بغداد.. سجلت ارتفاعا

إغلاق صالتين للقمار والقبض على ثلاثة متهمين في بغداد

التخطيط تعلن قرب إطلاق العمل بخطة التنمية 2024-2028

طقس العراق صحو مع ارتفاع بدرجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram