TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > كيف يتصوَّر العقل الشيعي (الشعبي) الوجود؟

كيف يتصوَّر العقل الشيعي (الشعبي) الوجود؟

نشر في: 16 إبريل, 2024: 12:14 ص

غالب حسن الشابندر

الكون كما نفهمه ظاهراً هو هذا العالَم الذي يحيط بنا، شمس وأرض وبحر وجبال وصحراء وحيوانات ونباتات… كائنات ومخلوقات وظواهر شتى، هذا هو البادي للعيان، وفيما رجعنا إلى القرآن الكريم نجد أكثر من مستوى نظري للكون، فهو قد يكون هذه الاشياء الظاهرة والخفية، أو هو العلاقات التي تربط بين هذه الاشياء، أو هو القوانين التي تحكم هذه الاشياء وعلاقاتها مع بعض… والكون في كتاب الله عزّ وجل بهيج… منتج… متحرك… زينة… عطاء… في خدمة الانسان… خير… لا ينفذ…. كما نستفيد ذلك من قوله تعالى: (هو الذي خلق لكم…)، ومن قوله تعالى: (وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج…)، وقوله تعالى: (وجعل في الأرض رواسي أن تميد بكم)، والآيات كثيرة التي تظهر لنا الكون حقيقة حية… نشطة… فرحة… جميلة.
المسلم إذن وحسب هذه الايات الكريمات متفائل… دؤوب… يتعامل مع الكون بايجابية وخير وفاعلية…. الشيعي مسلم بلا شك، وربما ــ كما أرى شخصيا ــ إن مذهب اهل البيت حسب الصحيح من آثارهم وأحاديثهم يمثِّل قمة سامقة في فهم رسالة النبي الكريم، فإنه طبقا لهذه المعادلة البسيطة هو الآخر ــ الشيعي ـ يتعامل مع الكون بروح ايجابية… مبتهجة… معطاءة…
هل ينتهي الامر؟
لا!
هذا الوجه الظاهر من تعامل العقل الشيعي مع الكون، وجه يتطابق فيه مع واقع الكون كما يتبدى لنا بكل وضوح،وكما هو منطق القرآن الكريم… هناك وجه خفي… مستور… مُغطّى…
الكون هذا في باطنه… في حقيقته القصوى حزين… يائس… بائس… منكسر… متهاوٍ… عليل… إنه غير ظاهره الحي النشط الحيوي البهيج…
نقرا في روايات تُنسب لأهل البيت عليهم السلام النماذج التالية من الإمضاءات! التي يعتبرها كثير من علماء الرواية الشيعية روايات صحيحة، بل في غاية الصحة…. نقرا على سبيل المثال: ـ
ــ إن جميع ما خلق الله تبارك وتعالى يبكي على الحسين عليه السلام.
ــ إن السماء والارض يبكيان على الحسين عليه السلام.
ــ الجن ينوح على الحسين عليه السلام.
ــ الحمامُ يبكي على الحسين ويلعن قاتله.
ــ البوم تبكي على مصاب الحسين.
ــ آلاف الملائكة تبكي على الحسين.
ــ البحار والانهار يموج باطنها بالبكاء والعويل على الحسين.
الروايات في هذا الموضوع كثيرة وقد جمعها عالم شيعي معروف هو المرحوم بن قوليه في كتابه المشهور (كامل الزيارات).
الجدير بالذكر، إن بكاء كل هذه المخلوقات على الحسين عليه السلام ليس يوم عاشوراء فقط، بل هو بكاء مستمر طوال الحياة، إلى أن يرث الله الارض وما عليها…
إذن الكون في باطنه، في أعماقه… مخلوق حزين… سواء ودموع ونَوْح… باستمرار… دون توقف…
الكون حسب هذه المعطيات في العقل (الشيعي) له وجهان، وجه فرح ووجه باطني حزين…
أم أنّ هناك كونين، الاول هو الكون الذي نعيشه ظاهرا، حيث الماء والخضراء والوجوه الحسنة، وكون آخر حيث الحزن والهم والغم والكدر؟
المنبر الحسيني على لسان بعض مدَّعيه يكرِّس ماهية الكون الحزين في العقل الشيعي العام، فإن هذا الكون حزين… بكّاء… مهموم… تصورٌ سار في خطب قراء المنبر الحسيني، وعلى السنة الوعاظ من الشيعة… بل هي أحدى مرتكزات السرد التراجيدي في قضية سيد الشهداء، ربيب رسول الله، الحسين سلام الله عليه…
النقطة المهمة هنا، إن السرد التراجيدي لقضية الحسين خبز يومي شيعي، ربما حتى في المناسبات المفرحة، حتى في الاعراس، حيث يقام مجلس تعزية في بعض الاحيان، وبالتالي، إن هذا التصور المأساوي للكون يترسَّخ عبر الزمن في أعماق الذات الشيعية من دون أن يعلم حاملها، أي حامل هذه الذات، وهذا احد قوانين النفس الانسانية أو أحد معالمها وخصائصها كما تقول بعض مدارس علم النفس والتربية،وينعكس هذا الراسخ على تصرفات وسلوك وأماني وتطلعات المسلم الشيعي من حيث يشعر ومن حيث لا يشعر،
المسلم الشيعي إذن بين مدلولين للكون، المدلول الحي… المُبهِج… الفرح… الذي لا ينضب… والمدلول الاسود… الحزين…. المهموم… المأساوي..
تُرى ما الذي يتمخَّض عن تضارب هذين المدلولين للكون لدى المسلم الشيعي؟
ليس محل الجواب الآن، ولكن أقل ما يمكن أن يقال عن ذلك، إنهما تصوران يخلقان شخصية مرتبكة…
إن العودة إلى روايات أئمة الشيعة الصحيحة تلغي كل هذه الازدواجية في النظر إلى الكون… الحسين شهيد بن شهيد ابو الشهداء، والحزن عليه سلوك جميل ورائع ومربً، ولكن بحدود معقولة، لا يعدو استدعاء الذكرى الفاجعة، والتفاعل معها بشيء من الألم، ويبقى الكون بهيجا… فرحا… وأحيانا نزقا… شهيا… لا حمامَ يبكي على الحسين الشهيد، ولا جبال تسيل دموعا عليه، ولا سماء تجلببت بالسواد على مصابه الأليم…

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

قناديل: (قطّة شرودنغر) وألاعيب الفنتازيا

باليت المدى: جوهرة بلفدير

العمود الثامن: ليس حكماً .. بل مسرحية كوميدية

 علي حسين قالوا في تسويغ الافراج عن بطل " سرقة القرن " نور زهير ، ان الرجل صحى ضميره وسيعيد الاموال التي سرقها في وضح النهار ، واخبرنا القاضي الذي اصدر قرارا بالافراج...
علي حسين

العراق بانتظار العدوان الإسرائيلي: الدروس والعبر

د. فالح الحمــراني إن قضية أمن البلاد ليست ذات أفق عسكري وحسب، وإنما لها مكون سياسي يقوم على تمتين الوحدة الوطنية والسير بالعملية السياسية على أسس صحيحة،يفتقدها العراق اليوم. وفي هذا السياق يضع تلويح...
د. فالح الحمراني

هل هي شبكات رسمية متشابكة أم منظمات خفية فوق الوطنية؟

محمد علي الحيدري يُشير مفهوم "الدولة العميقة" إلى شبكة من النخب السياسية، والعسكرية، والاقتصادية، والاستخباراتية التي تعمل خلف الكواليس لتوجيه السياسات العامة وصناعة القرار في الدولة، بغض النظر عن إرادة الحكومة المنتخبة ديمقراطيًا. ويُعتقد...
محمد علي الحيدري

الليبرالية والماركسية: بين الفكر والممارسة السياسية

أحمد حسن الليبرالية والماركسية تمثلان منظومتين فكريتين رئيستين شكلتا معالم الفكر السياسي المعاصر، وتُعدّان من الأيديولوجيات التي لا تقتصر على البعد الفلسفي فحسب، بل تنغمس أيضًا في الواقع السياسي، رغم أن العلاقة بينهما وبين...
أحمد حسن
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram