TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > كلام غير عادي: رائد مهدي الشِفِي

كلام غير عادي: رائد مهدي الشِفِي

نشر في: 16 إبريل, 2024: 11:16 م

 حيدر المحسن

هو ابن خالتي، نشأنا معاً في مدينتنا البعيدة عنّا نحن الاثنين، العمارة، والذكرى التي ما زلتُ احتفظ بها تعود إلى السبعينات. كنّا نلعب كرة القدم في حيّنا، بستان عائشة، وغشّ الفريق المقابل في نتيجة المباراة، أضاف هدفا لم يكن حقيقيّا، واندلع بيننا شجار تحوّل إلى معركة خلعنا فيها أحذية الرياضة، مثلما يحصل في عالم الكِبار حين يبدأون العراك بنزع القفّازات. ما زلت أذكر حذاء (رائد) اليمين عندما رماه واستقرّ ساحقا جرادةً تدبّ على الأرض. فكّرتُ في تلك اللحظة أنّ هذا يجلب الحظّ الجيّد لفريقنا في النزاع، وهو ما حدث بالفعل.
بالأمس رأيت (رائد) في الحلم، وكان يرتدي صدريّة بيضاء ويجلس وراء منضدة، في مشهد يماثل مهنته في الواقع، فهو طبيب، ارتحل منذ زمن بعيد إلى بلاد الضباب، وصار مواطنا إنكليزيا، البُعد بيننا يبلغ آلاف الأميال، فكيف لي أن أراه؟ لكن آلة الذهن تعمل وفق منطق لم يتوصّل إليه العلم، وهكذا قضيت ساعة أو أكثر من زمن الحلم مع ابن خالتي، انطبعت تفاصيلها في خاطري وأحاول نقلها على الورق.
كانت معه ممرّضة تحمل حقنة وريديّة، أي ما ندعوها (كانيولا). فرش د. رائد على الطاولة راحةَ يدي، وطعنتْها الممرضّة بالحقنة في الوسط. سالت دمائي داخل حوض زجاجيّ، وكانت لحظات صلدة سقطتُ فيها في حفرة آلامي، وكانت جميع الأشياء في حياتي في مدى بصري، وجميع أفعالي. ثمّ اشتدت آلامي وهذيتُ في حلمي طالبا المساعدة. قال ابن خالتي: "لا بدّ أن تحتمل الألم". وقالت الممرّضة: "نحن نزيل عنك الأفكار التي تسبّب لك الأرق". انتشلني صوتهما من داخل حفرة آلامي، وكان نبض النهار الهادئ يصلني عبر النافذة، وسماؤه الصافية تحمل قطع نديف أبيض. كنتُ أحاول جمع كلّ الذكريات المزعجة كي أقذف بها خارج نفسي، وكان هناك جزء مني يستوعب الأمر، ولكن كان هناك جزء آخر. لفّت الممرضّة يدي بالضماد، ثم قامت تحمل الحوض لتسكبه في المغسلة. بدل رائحة الدماء المؤلمة، امتلأت الغرفة بشذى زهر الياسمين المبلّل بالندى.
"أنت الآن أخفّ وزنا من السابق". قال رائد مبتسما ومشجّعا، وبمهنيّة عالية. ثم أردف:
" أنت محظوظ لأننا أبعدنا عنك النوايا الشرّيرة. نحن نساعدك كي يكون نومك سليما".
كان يرتجف في أثناء الحلم عصبٌ في كتفي، وأنا أنظر إلى يدي الملفوفة بالضماد، وكنت أتساءل مع نفسي إن كان مركز هذه الأفكار هي اليد، يدي، وعندما صحوتُ كان كتفي ما يزال يرتجف.
الديانة البوذية تقول بوَهمية العالم، وتذهب معها في ذلك جميع أديان الهند، والقول المنسوب إلى عليّ بن أبي طالب: "الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا" يؤيد هذه الفكرة. أيّ الصورتين أقرب إليّ الآن لابن خالتي، صورة لعبة كرة القدم، أم التطبيب؟
ما بين القدم واليدِ تسيرُ رحلتنا على الأرض، الأولى تمثّل وجهتنا القديمة الأولى، أي الحيوانيّة، ويدعو علماءُ التشريح يدَ الإنسان دماغَه الثاني، فهي تحدّد مصيرنا، وكيف تكون صورتنا في الأخير، أخيارا أم أشرارا ملعونين. هل كانت النباتات والحيوانات، بما فيها السِباع، بريئة لأنها تمشي على أربعٍ، أي أنها بلا يَدين؟
أعود إلى رائد مهدي الشِفِي، والمنام الذي رأيتُ فيه صورته واضحة كأنه يجلس قربي، خصوصا اللمعة في الجبهة، وبسمة الوجه العريضة التي تدلّ على أنّ صاحبها يمتلك أغلى ما نطمح إليه، وهو طيبة القلب. كأنّ الحلم والواقع يتبادلان الدور. المعركة التي دارت عقب مباراة كرة القدم هي الآن أقلّ واقعيّة، إلى درجة أنّي أراها مثل حلم، بينما صارت رؤياي لابن خالتي في المنام واقعا قارّا. أتساءل الآن: أيّ الحدثين هو الحلم، وأيّهما الواقع؟ الاثنان لا وجود لهما، طالما أن أحدهما يحلّ مكان الآخر. بعبارة أخرى الواقع والحلم عبارة عن فقاعتين متماثلتين تؤكدان الخواء والعدم، وهما ميزتان لعالم الصحو والنّوم اللذين يسبح الجميع في مائهما، والانتباه منهما يكون، لا محالة، بواسطة الموت، اليقظة الوحيدة التي تجمعنا دون استثناء.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

لماذا نحتاج الى معارض الكتاب في زمن الذكاء الاصطناعي؟

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

 علي حسين ما أن خرج الفريق عبد الوهاب الساعدي ليتحدث إلى احدى القنوات الفضائية ، حتى اطلق بعض " المحلللين " مدفعيته تجاه الرجل ، لصناعة صورة شيطانية له ، الأمر الذي دفع...
علي حسين

باليت المدى: شحذ المنجل

 ستار كاووش مازال الوقت مبكراً للخروج من متحف الفنانة كاتي كولفيتز، التي جعلتني كمن يتنفس ذات الهواء الذي يحيط بشخوص لوحاتها، وكأني أعيش بينهم وأتتبع خطواتهم التي تأخذني من الظلمة إلى النور، ثم...
ستار كاووش

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

محمد الربيعي يضع العراقيون امالا كبيرة على التشكيلة الوزارية الجديدة، المرتقب اعلانها قريبا، لتبني اصلاحات جذرية في مؤسسات الدولة، وعلى راسها التعليم العالي. فهذا القطاع الذي كان يوما ما منارة للعلم والمعرفة في المنطقة،...
د. محمد الربيعي

مثلث المشرق: سوريا ومستقبل الأقليات بين لبنان والعراق

سعد سلوم على مدار عقود، انتقلنا من توصيف إلى آخر: من "البلقنة" في سياق الصراعات البلقانية، إلى "لبننة" العراق بعد التغيير السياسي في أعقاب إسقاط نظام صدام حسين، وصولًا إلى الحديث اليوم عن "عرقنة"...
سعد سلّوم
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram