علي حسين
كنت وما زلت أنتمي إلى قوم لا يمكنهم تخيل عالم لم تظهر فيه الكتب، التي سطرها مجموعة من الأحرار علموا البشرية قيمة وأهمية الحياة، لكني بالأمس وأنا أتصفح مواقع الصحف ووكالات الأنباء شعرت بأنّ كاتباً مثل حالي لا يمكن له أن يترك وثيقة عالية نصيف في ديمقراطية النهب الوطني ، ويذهب ليحدّث القرّاء عن معرض للكتاب يقام في أربيل ، أو يأخذ القراء في حوار حول المرحوم أفلاطون الذي ظل يصر على أن تعاسة البلدان لا يمكن أن تزول ما لم يتمتع حكامها بفضيلة التعلم. "إن طلب العلم شرط لمن يتقلد زمام الحكم، والسبب هو ما يتميز به الحاكم المتعلم من حكمة وصدق".
كتب من كل لون معرفي تغص بها قاعات معرض أربيل الدولي للكتاب، وأسرح مع العراق الذي يراد له أن يعيش في عصور الانتهازية ، العراق الذي كان فيه مصطفى جواد يعلّم العراقيين معنى الشغف باللغة، فيما علي الوردي مصرّ على أن يواجه المجتمع بحقيقته، في الوقت الذي يسطر فيه الجواهري المعلقات في حب الوطن، ويتغنى عبد الله كوران بأطياف المجتمع العراقي .. ذلك كان عراق الكرملي وجواد علي ونازك الملائكة والزهاوي وجماعة الفن الحديث وهي تحتضن جواد سليم ومحمد غني حكمت وفائق حسن، فيما اليوم تغزونا أسراب جراد الجاهلين الذين يرون فيها خزينة ينهبونها في وضح النهار .
دائماً كنت أسأل نفسي: ترى كيف سيكون شكل العالم لو لم يكتب فيه ديكنز روايته "الآمال العظيمة"، ولم يحول فيه المتنبي الشعر إلى نصوص في الحِكَم، ولم يعلمنا عمر بن أبي ربيعة أن مديح النساء أبقى أثراً من مديح كل الحكام؟، هل يمكن أن نتخيل بريطانيا من دون سؤال هاملت الأزلي: أكون أو لا أكون؟، ماذا يبقى من انقلابات أمريكا اللاتينية غير ذكرى حكايات يوسا، وساراماغو، وإيزابيل أللندي ومعلمها ماركيز؟، ماذا يبقى من أميركا لو لم يكتب لها همنغواي "الشيخ والبحر"؟ .
تعطينا الكتب المتعة ونورت عقولنا. وحولت لنا الأرض إلى قرية واحدة قبل أن يكتشف الأمر منظرو العولمة، كتب زودنا أصحابها بالحكمة ومؤرخون حفظوا لنا حكايات التاريخ وعبره، وشعراء صنعوا لنا أحلاماً وآمالاً وعوالم جميلة، كتب ندين لها بجمال الحياة.
أيها القارئ العزيز، عذراً لأنني أعود من جديد إلى الكتب، فكلما عجزت تعابيري في وصف حال هذا الشعب المغلوب على أمره أعود إلى ما سطّره العباقرة، عسى أن أجد سلوى تعينني على مواجهة خطب أصحاب الصوت العالي، الذين يصرون على نشر ثقافة الخديعة، وفي الوقت الذي ننظر إلى من يسعى لاستبدال الخراب ، بعالم من الكتب تحت شعار: إقرأ .. ذكاؤك ليس اصطناعياً ، فالذكاء البشري وحده القادر على نشر العدل والمحبة.