طالب عبد العزيز
ربما بسبب الفوضى التي أحبّني فيها أحياناً، أجدني أمْيلَ لسماع ومشاهدة ولقراءة غير ممنهجة، فقد أقرأ مثلاً في عشرة كتب مرة واحدة، أفتح هذا، واغلق ذاك، ثم اعود لورقة كنت قد وضعت عليها هامشاً ما، وأجْهدُ اكثر في العثور على صفحة، رأيت أنني توقفت عندها، لكنني أضعتها وهكذا، أكون في دوامة، هي الاحب والاقرب الى نفسي، إذا سرعان ما تنبثق فكرة ما، أو تنشقُّ الارض عن قصيدة كامنة، وربما وجدت بين ذلك كله أمكانية صناعة كتاب ما.. ولعمري، أجدني في الفوضى هذه، أكثر مما أجدني في النظام، الذي منه الكآبة، وكلُّ ما لا طاقة لي به.
قبل أيام كنتُ أقرأ في كتاب لبيتر هاندكه اسمه(عن الموسيقى) وهو كتاب قصصي أكثر منه رواية، وربما كان تدويناً لرحلة قصيرة لرجل يبحثُ عن صندوق الموسيقى المنقرض، من الذي كان يوضع في المقاهي قبل استحداث الاجهزة الصوتية، لكنَّ اسلوب هاندكه المشوّق، وطريقته في الكتابة أجبرتني على إكمال الكتاب، مستخلِصاً من ذلك إمكانية بعضنا في صناعة كتابٍ، أيِّ كتاب، وعن أيِّ فكرة، وموضع، إذْ أنَّ الكاتب المقتدر يمكنه صناعة كتاب استثنائي من فكرة هامشيةٍ بسيطة فهو يكتب:" بما أنه لا يوجد شيء سوى الفكرة، فالفكرة هي كل ما أستطيع أن أخبرك عنه".
تدفع فكرةُ البحث عن صندوق الجكسبوكس البطلَ(الرحالة) بالسفر الى مدينة سورايا الإسبانية، لجمع معلومات عن الصندوق ومن ثم الكتابة عنه، فيتوجه- هو المهووس بفكرة الهروب- الى محطة الحافلات، ويستقل إحداها، ومن هناك، عبر تجواله ومشاهداته تتسع مادته، فيلتقط لنا دون أن نشعر بذلك صوراً وحيواة مدهشه، جمعها من المدن التي مرَّ بها، دون أن نشعر بأنها واقعة في صميم عنايته، أو ليست ضمن مقاصده، فهو ذاهب للكتابة عن الجكسبوكس المنقرض. في الصفحات القليلة سنتعرف على امكانية كتابة صفحات أكثر لم تكن لتخطر على بال الكاتب نفسه، لولا رحلته في المدن هذه، الامر الذي يحيلني إلى أنه (هاندكه) ربما يكون قد عمل في الصحافة، إذْ أنَّ الدرس الذي يتلقاه الصحفي يقول بأنْ عليك أنْ لا تكتب وأنت جالس في مكتبك، إنما وأنت واقف على الحدث. المعلوم عنه انه روائي وسينارست ومخرج سينمائي.
لا أعرف كيف أحالني هاندكه في كتابه هذا الى ما سمعته من أبي ذات يوم، وهو ينقل الحديث عن أحد أبناء خاله، المهووس باخبار الحرب العالمية الثانية، والشغوف بحبِّ الزعيمين النازيين أودلوف هتلر وإرفين رومل، فقد كان يمشي من بيته بأبي الخصيب الى مركز المدينة بالعشار، ويأخذ مجلسه في إحدى المقاهي، ليسمع أخبار الحرب وانتصارات الالمان من شيء يسميّه(الصندوق) نعم، هذا هو اسمه، لكنه ظلَّ يقصد المقهى وسماع الموسيقى والاغاني حتى بعد أن وضعت الحربُ أوزارها.
في كتاب (عن الموسيقى) يفلح الكاتب بأخذنا الى ما ليس معلناً، ويعمل على قلب المعادلة التي غالباً ما تُعتمد في الكتابة القصصية والروائية. فهو يكتب:" هل تتخيّل أنَّ فكرة الكتاب الاساسية من أجل الحديث عن انعكاس النور الطبيعي لا سيما الشمس، مصوغة في جملة تلي الاخرى، وليس اساساً بالنسبة لأمر آخر، مثل وصف الاضاءة الاصطناعية المعتمة في الظلام، والمنبعثة من تلك الاسطوانات" في كتابه هذا صرنا منشغلين معه بوصف المدن والامكنة والشوارع والفنادق والمحال التجارية أكثر من انشغالنا بامكانية عثوره على الصندوق، فهو يقول:" كفاك كتابةً عمّا تحب وأكتب عمّا يستفزك، وبه تحدٍّ لك".
في كل مدينة دخلها كان بطل قصته يريد نسيان موضوعه الاساس(صندوق الموسيقى) فيعمد الى الحديث عن الشخصيات التي يلتقيها والامكنة والمباني ويسهب في وصفها، بما ينسينا موضوعه. فيدخل مقهى ويغادرها الى بار، ويتركه الى فندق، ثم يعمل على تأثيث المكان الذي يوضع فيه الصندوق، فمرة في يوغسلافيا وثانية في ايطاليا وفينيسيا ويستعرض وقائع واحداث كثيرة كانت تبث من الصندوق، كلمات رؤساء ومؤتمرات واخبار عواصف ومهرجانات ويتسكع في أكثر من مئة حانة بسورايا ثم يغادرها، لكنه لم يكتب حرفاً واحداً، وتنتهي رحلته دون أن يعلمنا ما إذا كتب رواية ام لا. و كنوع من العزاء يقول لنفسه"لقد قمت بعملي الذي يشبهني".
لم يعد أحدُ في أسرتنا يتذكر شيئاً عن ابن خال أبي المهووس باخبار النازية وزعيميها فقد غادر البصرة الى مدينة بإيران، استقل زورقاً في الليل، وانقطعت أخباره عنهم. يقولون بانه ارتكب جنايةً، فرَّ على أثرها الى هناك، وانتهى أمره غريباً، لعله جلس في مقهى ما، وعثر على صندوق جديد آخر بعبادان او المحمرة، وظل مصغياً لأغانيه الى اليوم، أو أنه انشغل بالتطواف في مدن أيران الاخرى، دون أن يدوّن حرفاً واحداً.