اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > دفاتر رافع الناصري: مأثرة الانغمار في التعبير

دفاتر رافع الناصري: مأثرة الانغمار في التعبير

نشر في: 26 مايو, 2024: 11:19 م

سعد القصاب

تبقى التجارب المُلهمة في الفن حاضرة لا تغيب، جراء ما تمنحنا اياه من عطايا خبرتها الجمالية المصونة،

أو ربما لما تنطوي عليه من فرادة تستدعي النظر والاهتمام والتثمين. تجربة الفنان رافع الناصري»2013 1940»مثال لذلك. تجربة تأسيسية بامتياز، بأثر مهمتها ودورها المضاعف الذي عزّز من ثراء المشهد التشكيلي العراقي والعربي معاً. اتخذ هذا الدور ممارسات عدة، مرة بوصفه قد أرسى خصوصية نوع فني هو فن الكرافيك، والذي كانت ملامحه غامضة منذ الجيل التأسيسي للفن العراقي. الفنان الناصري كان قد قدّم ممارسات متقدمة في هذا النوع الفني، منذ معرضه الشخصي، غرافيك، في بغداد “1965”، ذلك ما منحه افقاً جذب اليه الكثير من المريدين، هم الان طلائع يتقدمون المشهد التشكيلي العراقي. كان استاذاً ملهماً لهم كحال أعماله الفنية في هذا الفن.

ومرة أخرى ان هذا الفنان قد خاض غمار تجربة جيله الستيني بما تنطوي عليها من روح تجريبية، وبدافعية اجتهدت في تمييز منجزها الفني عبر هاجس الاختلاف. ما جعله مع العديد من القلة من فناني ذلك الجيل، يوسمون حركتنا التشكيلية بروح المغامرة، والتنوع، باطاريح خلاقة تنفتح على عصرها عبر هوية فنية شديدة الخصوصية، هي من صلب حيوية الأبداع العراقي. كانت احدى تلك المغامرات مشاركته مع فنانين آخرين في تأسيس جماعة الرؤيا الجديدة “1969”التي كانت بمنزلة تجربة مشتركة أنفتحت على أفق وأسئلة تستدعي العمل الفني كمهمة تثري من انسانيتنا بما يتمثله من جهد معرفي وجمالي.

فضيلة أعمال الفنان الناصري وفي عديد ممارساته: لوحاته، ومطبوعاته الكرافيكية، ودفاتر الرسم، في كونها استدعت أمثولة الجميل في العمل الفني، وابقتها شاهدة دائمة في تجربته الابداعية. ذلك المغزى أو المعنى الذي ظّل حتى سبعينيات القرن المنصرم، سؤالا حائراً، بأسباب اهتمام الفنان العراقي بتفضيل أسئلة التراث والسياسة، بوصفها موضوعات أثيرة في العمل الفني تقدمت على اعتبارات الجميل فيه. كانت أعمال الفنان، ذاك، حاشدة بالتوتر والمواجهة واستيضاح الهوية، فيما أبقى الفنان الناصري تجربته على مسافة خاصة، عيّنها لنفسه، والتي تمثلت موضوعات هانئة، دالة على بذخها التصويري، وانغمارها في حساسية جمالية، وكأنها تعاود انشغالها الدائم بماهية الجميل في التجربة الإبداعية.

عدا الى أن تعدد الممارسة التصويرية والطباعية للفنان الناصري قد أضفت بعدا حيويا، مضافا، وتنوعا ثرا لرؤيته وخبرته الجمالية. الانتقال بين بناء اللوحة الى أنجاز العمل الطباعي أو تنفيذه لدفاتر الرسم. لكنه في تعددية هذه الممارسة وأثناء انشغاله بهذا التنوع، لم يكن متشابه في الانجاز، بل كان يستدعي أثر الخصوصية في كل نوع فني: في اللوحات كان الفضاء التصويري يتسع للضوء وللأفق ولمكان متعال يغيب فيه الإحساس بماديته لكنه يوحي بزمن ما. فيما كانت أعماله الطباعية تنطوي على الشغف في تمثل بناء شكلي وتقني لا يخلو من الصرامة بقدر ما هو باعث على حساسية جمالية تثير الدعة والهناءة، فيما يتعزز اختلافا لافتا في دفاتر الرسم لديه: هو لا يبدأ في تلك الدفاتر من موضوعات ولكنه ينتهي اليها.

منذ أولى دفاتره الفنية التي أنجزها «هـل ثـمّـة فـاصـل بـيـن الـحـركـة والـسّـكـون، 1973، حبر على ورق، شعر: مي مظفر”، كانت المدينة والشعر، هما تلك النهايات في هذه الدفاتر، والتي تحمل، غالبا، أسماء مدن وشعراء. أن إلهامه أثناء تنفيذها يبدأ من لحظة الفعل الجمالي دون سواه، وهي اللحظة ذاتها، التي رافقته لمدة أربعة عقود، ومنذ أن اقـتـنى في بـكـيـن عـام 1959 مـجـمـوعـة مـن الـدّفـاتـر الـمـطـويـة، و رسـم في بـعـض هـذه الـمـطـويـات بـطـريـقـة الـرّسـم بـالأصـابـع، وهي طـريـقـة صـيـنـيـة لـلـرّسـم بـالـحـبـر. وكأن هذه اللحظة قد مكثت عند تلك البداية ولم تغادرها، باقية كامنة دائما في دافعيته التعبيرية، وكأنها خالية من الماضي، أو حتى من دون زمن. قادمة من بدايات خيال لا يشغله الا تمثله لأثر الرؤية والمشاهدة والذوق: مرة بوصفه جوّالا حرا من دون غاية في المكان/ المدينة، ومرة أخرى باحثا عن صورة ممكنة، دالة، لكنها مضمرة في القصيدة/ الشاعر.

يخصّص الناصري دفاتر لمدن: تكريت، بغداد، عمان، أصيلة، برلين، باريس، بكين. كذلك الأمر مع قصائد الشعراء: المتنبي، أبن زيدون، الجواهري، أتيل عدنان، مي مظفر، محمود درويش.

لطالما كانت تلك الدفاتر تنطوي على عناوينها، هو لم يجعلها، غالبا، فضاءا تصويريا وتجريبيا يخلو من غايته التصويرية، بقدر ما أدرك أنها مختبرا لممارسته التصويرية، تمثلا لمعنى كامن سيدركه ويجلي عنه ما تركم عليه من قول ليظهر من حسيته وأثره الجمالي. أن يلمس من خلال هذه الاختيارات يقظة الجميل في خياله، عبر حرية تكويناته اللونية الصريحة، في الإشارة العابثة فيها، أو ربما في ليونة الخط الذي يستدعيه كأثر متاح في توصيف دلالة ما، كما في فراغ الورقة البيضاء المشبعة بالضوء.

ينفذ رافع الناصري دفاتره الفنية بخامات متاحة، تفترض ثقافتها وألفتها مع الفنان جرّاء مشاركة قديمة وموغلة في أنجاز الصنيع الفني: الرصاص، الفحم، اللصق(الكولاج)، الاحبار، ألوان الاكريلك، استخدام الطباعة. ذلك ما يدعو أن تتمثل تكويناته الصورية نسقا تصويريا ذي خصوصية مركبة. غالبا ما يفترض الناصري أفقا لدفاتره، ويجعل من منتصف صفحاتها فضاءا يتمثل جل تكويناته التصويرية، والتي تتمثل حينا بصور، او مساحة لونية، أحادية، صريحة أو معتمة، تمتد بتلقائية في منتصف الصفحة، أو تعالج بإضافة علامات غير ذي دلالة، نقاط، أو متجزئات حروف، أو صبغة لونية غير متعينة. فيما سيكون الفضاء الذي يحيطهما مساحة لفعل التدوين الكتابي.

أسعى أن أصف نموذجين من تجرته هذه: في دفتره عن بغداد» بدون عنوان، أكريلك على ورق، 1991»، سيكتفي في تمثل فعلا تعبيريا مباشرا ومتسلسلا، يضاهي ذات الحدث التي تعرضت له المدينة جراء الدمار الذي لحقها بأثر الحرب عليها «حرب الخليج». أثار كفه، اللون الأسود والبني الذي يمتد حينا كي يشغل مساحة معتمة على صفحات الدفتر، وأحيانا بمثابة لطخات سائلة، فيما يتم تدوين وقائع، كتابة، في أعلى الصفحة تبين حجم الخراب الذي طالها وعدد القتلى من أبنائها.

كما سيتخذ دفتر» عن الواسطي، 2005» منحى تصويريا اخر، شديد المغايرة، بجعل نماذج من مخطوطة هذا الفنان، بعض الكتابات فيها، دلالة عن محتوى المنجز، وعبر استعارة متجزئات تصويرية من المخطوطة وبعض كتابات فيها، وعبر معالجة تصويرية يتواشج فيها الأثر الطباعي، مع الخط ومقاطع حروفية، تتوزع على صفحات الدفتر. حيث طغت الصبغة اللونية الأحادية بتدرجاتها، فيما ستألف مثل هذه الصياغات الشكلية استقلالية بصرية لكل صفحة من صفحات الدفتر. ان الناصري في دفتره هذا يستدعي مأثرة المخطوطة العباسية المصورة، متمثلة بالفنان محمود بن يحيى الواسطي» القرن الثالث عشر الميلادي»، والتي شكلّت لأجيال من الفنانين العراقيين، ومنذ خمسينيات القرن الماضي، الهاما بصريا لهم، ودافعية جمالية للبحث عما هو فريد، شديد الخصوصية، في التجربة الفنية.

أقول أن مأثرة الجميل في دفاتر الفنان النصري، كما في أعماله الطباعية ولوحاته الفنية، كانت قائمة على طلائعية في التجريب، تتمثلها حرية قصوى تجعل من المعنى والممارسة الفنية في أن يتخذا بعدا حسيا حيا، يتناغم مع الدهشة، والصفاء المفعم بخيال يقظ.

انها تجربة تنطوي على ثراء «الأنا» المأخوذة بالجمال، وذلك هو سرها البهي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram