اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > مُخْتَارَاتُ»: «تُومَاسْ هِيذرُويكْ»

مُخْتَارَاتُ»: «تُومَاسْ هِيذرُويكْ»

نشر في: 19 مايو, 2024: 10:36 م

د. خالد السلطاني

معمار وأكاديمي

لا يمكن وصف نتاج «تُومَاسْ هِيذرُويكْ» بكلمة واحدة. اذ ليس بمستطاعتها، اياً كانت «بلاغتها» أن تفي بصدق وواقعية طبيعة منتج هذا الانسان المبدع والموهوب،

الذكي والفطن والماهر: متعدد الاهتمامات. وقد قدمته، يوما ما، للقارئ العربي، وقلت عنه وعن تصاميمه من ان «غالبية اعماله (وربما جميعها!) مثيرة ومذهلة وتستدعي دوما النقاش حولها لتميزها ومشهديتها ومخالفتها وعدم مألوفيتيها». وهذا هو في الواقع «تُومَاسْ هِيذرُويكْ» (1970) Thomas Heatherwick ذاته، مجسداً كل تلك الاوصاف والنُعُوت والصفات! وحديثنا الآن سيقتصر على ذكر اعماله المدهشة واصطفاء بعض ما عبرّ عنه من اقوال، عكست نسبياً افكار ورؤى خاصة به. واذ نشير الى ذلك كله، فأننا سنسعى وراء إيراد ذلك بصيغة الاختصار الشديد، اتساقاً مع خصوصية مقالنا وطبيعته الموجزة.

والمصمم «توماس هيذرويك»، مولود في لندن في 17 شباط 1970. وبعد ان انهي تعليمه الفني في «الكلية الفنية الملكية» بلندن Royal College of Art (RCA) سنة 1994. عمل في عدة مكاتب استشارية مرموقة في بريطانيا قبل ان يؤسس مكتبه الاستشاري باسم «استديو هيذرويك» Heatherwick Studio وهو يقوده الان ويعمل معه فريق تصميمي يتألف من حوالي 250 معمار ومصمم ومنتج مبدع. يتعاطى المكتب مع مجموعة واسعة من مجالات التصميم، بدءًا من العمارة، والهندسة، والنقل، والتخطيط الحضري الى اعمال الاثاث والنحت وتصميم المنتجات. وفي اعتقاد «هيذرويك»، فان التنوع العريض من المهارات التى يتعامل المكتب معها، هي مواجهة ورد فعل «الاستديو» على «غيتوات» فكرية معزولة، تسعى الى فصل النحت عن العمارة وعن الازياء وعن الاعمال المعدنية وعن تصميم الاثاث، وتتعاطى معها كاجناس فنية منفصلة. صمم المكتب عدة تصاميم في انحاء مختلفة بالعالم، وحاز على جوائز واوسمة تقديريه متنوعة من دول ومنظمات عديدة عن اعماله المميزة.

ولعل مجرد ذكر بعض نماذج من اعماله قد تعطي للمتلقي وسع وفرشة «مروحة» التصاميم المختلفة التى يتعاطي معها المكتب؛ فهو المصمم لجناح المملكة المتحدة المشهور في معرض شنغاي بالصين (2010)، كما انه مصمم «الجسر المتدحرج او الدوار « The Rolling Bridge في لندن سنة 2005. وكذلك «متحف زايتز للفنون المعاصرة» في كاب تاون، بجنوب افريقيا 2011.ويعود لمكتبه فكرة اعادة تصميم «الباص اللندني الكلاسيكي ذي الطابقين» (2010) بحلته الجديدة وبمزاياه من حيث الاقتصاد بالطاقة وزيادة السرعة. وهو مصمم ايضا «الميدان الباسفيكي» (2005) Place Pacific في هونغ كونغ. والجامعة التكنولوجية في سنغافوره (2011) Tec. University in Singapore؛ وكذلك نصب «الوعاء» (او الاناء") Vessel (2019)، في احد مياديين نيويورك، وغيرها من المشاريع المتنوعة والمتواجدة في فضاءات مدن عالمية مختلفة.

يوجد في قلب عمل الاستوديو التزام عميق بإيجاد حلول تصميمية مبتكرة، مع التفاني في التفكير الفني والإمكانات الكامنة للمواد والحرفية. ويتم تحقيق ذلك من خلال منهجية عمل للتحقيق العقلاني التعاوني، والتي يتم إجراؤها بروح الفضول والتجريب. وانطلاقا من سياق حديثنا المختصر فاننا سنتناول هنا بالكلام عن امثلة مصطفاة من منتج هذا المصمم المشهور. فجناح المملكة المتحدة في معرض شنغاي 2010، جاء غلى شكل مكعب يبلغ ارتفاعه 20 مترًا (66 قدمًا)، وتم وضعه في وسط موقع المعرض في المملكة المتحدة الذي تبلغ مساحته 6000 متر مربع، بحيث يمكن للزوار اختيار ما إذا كانوا سيذهبون إلى الداخل أو سيشاهدونه من مسافة بعيدة. تم تزيين الأراضي بالعشب الصناعي. يقع مدخل ومخرج الجناح في مستوى تحت الأرض من الجناح.

يتكون الهيكل من إطار مركب من الفولاذ والخشب يبلغ سمكه مترًا واحدًا مع فتحات محفورة بدقة حيث تم تثبيت 60.000 من خيوط الألياف الضوئية بطول 7.5 متر (25 قدمًا) وقطر 20 ملم (0.79 بوصة) في أكمام من الألومنيوم. برزت الخيوط من الخارج، تتموج بتأثير الرياح وقوتها، ومن الداخل، حيث عرضت كل منها بذرة واحدة أو أكثر عند طرفها. تم الحصول على البذور من معهد كونمينغ لعلم النبات، وهو شريك في مشروع بنك بذور الألفية التابع لشركة كيو جاردنز، والذي تم تصميم الجناح لعرضه. كان الجزء الداخلي مضاءً أثناء النهار بالضوء الذي تسحبه الخيوط. بعد حلول الظلام، تمت إضاءة المبنى من الداخل بمصادر الضوء في الخيوط. تم تشييد الجناح بتكلفة 26 مليون جنيه إسترليني، وكان هذا الجناح واحدًا من الأجنحة الأكثر شعبية زيارة ومروراً في المعرض.

وفيما يخص تصميم «متحف الفن الحديث» في جنوب افريقيا، وهو باسم «متحف زايتز Zeitz للفنون المعاصرة»، فان فكرته بدت للآخرن مفاجئة وغير متوقعة. فالمقاربة التصميمية اعتمدت على «تحويل» كتل المبنى (وهي صوامع «سايلوات» حبوب خرسانية سابقة) الى فضاءات متحفية: بضمنها العرض الفني وخدمته وتأمين العمل البحثي فيها. وفي هذا السياق يذكر المصمم «هِيذرُويكْ»، من ان السؤال الاول الذى جابَهَ المصممين حول كيفية تحويل اثنين وأربعين أنبوبًا خرسانيًا عموديًا إلى مكان لتجربة الثقافة المعاصرة. ووفقًا لهيذرويك، فان «.. أفكارنا تصارعت مع الحقائق المادية غير العادية للمبنى. لا توجد مساحة مفتوحة كبيرة داخل الأنابيب المكتظة بكثافة.. أردنا إيجاد طريقة للاستمتاع به والاحتفال به، يمكننا إما محاربة مبنى مصنوع من الأنابيب الخرسانية أو الاستمتاع بطابعه الأنبوبي. على عكس العديد من تحويلات المباني التاريخية التي تحتوي على مساحات كبيرة جاهزة لإعادة استخدامها، «لا يحتوي هذا المبنى على أي شيء». «لقد أصبح المشروع يدور حول تخيل تصميم داخلي منحوت من داخل كائن البنية التحتية مع الاحتفاظ بشخصية المبنى». فالحل الذي طوره مكتب Heatherwick Studio هو نحت صالات العرض ومساحة الدوران المركزية من الهيكل الخرساني للصوامع لإنشاء ردهة مركزية واسعة بشكل استثنائي تشبه الكاتدرائية مليئة بالضوء من سقف زجاجي علوي. قام المهندسون المعماريون بقطع مقطع عرضي من خلال ثمانية من الأنابيب الخرسانية المركزية. وكانت النتيجة الحصول على ردهة بيضاوية محاطة بأعمدة خرسانية علوية وعلى الجانبين. سيؤدي تدفق الضوء عبر السقف الزجاجي الجديد إلى إبراز استدارة الأنابيب. تخلق هذه الأشكال الهندسية المتقاطعة عرضًا استثنائيًا للحواف، يتم تحقيقه باستخدام تقنيات قطع الخرسانة المتقدمة. سيتم استخدام مساحة الردهة هذه «في اللجان الفنية الضخمة « ويذكر «تُومَاسْ هِيذرُويكْ» بانه سيتم «.. نحت صناديق الصوامع الأخرى بعيدًا عن مستوى سطح الأرض مع ترك الجدران الخارجية الدائرية سليمة. ستوفر المكعبات البيضاء النقية الداخلية مساحات عرض ليس فقط لمجموعة Zeitz الدائمة، ولكن أيضًا للمعارض المتنقلة الدولية. وسيحتوي المتحف الفني على 80 معرض و18 منطقة تعليمية وحديقة منحوتة على السطح ومنطقة تخزين وحفظ على أحدث طراز ومراكز الممارسة الأدائية والصورة المتحركة والتميز التنظيمي والتعليم، وكل هذا صممه «استديو هيذرويك» وهي تشمل جميع وسائل الراحة اللازمة لـ مؤسسة عامة بهذا الحجم بما في ذلك المكتبات، ومطعم وبار، ومقهى، وغرف التوجيه، وغرفة المانحين، وغرفة الزملاء وغرف القراءة المختلفة سيتم إعادة تصميمها لإنشاء تعليم وموقع غير عاديين مع توفير مساحات محددة للفنانين للحوار في البنية الأصلية.

اما مشروعه الآخر المثير وهو «مركز التعلم» Learning Hub، فان فكرته التصميمية تواكب المستجدات التى طرأت على اساليب التعليم الجامعي الجديد، في زمن الانترنيت والتكنولوجيا المتقدمة، ويقترح تصميما لمجمع الجامعة خلوا من الممرات او فصول وقاعات مغلقة، ويقترح مقاربة تصميمية مبنية على مفاهيم التجمع والاختلاط والتعاون، ويقدم حلا لفصول دراسية مفتوحة تطل على منطقة تجمع مشتركة. والمجمع المصمم من قبل مكتب «استديو هيذرويك» عبارة عن مرفق تعليمي متعدد الأغراض تم بناؤه كجزء من برنامج إعادة تطوير الحرم الجامعي من قبل جامعة نانيانغ التكنولوجية في سنغافورة، وتم افتتاحه في عام 2015. وهو يعمل على زيادة التفاعل بين الطلاب وأعضاء هيئة التدريس وعبر التخصصات عن طريق استبدال الغرف المستطيلة و ممرات تحتوي على اثني عشر مجموعة أنبوبية من الغرف التعليمية حول ردهة مركزية و56 غرفة محاضرات. الغرف مستديرة الشكل ويمكن إعادة تشكيلها. تتناقص الأبراج نحو قواعدها للحصول على مظهر عضوي، وتشمل المساحات المشتركة شرفات حدائقية. مادة البناء الأساسية هي الخرسانة، مع أكوام معدنية من الشرفات والسلالم المغطاة. تم طبع واجهة الأبراج بنمط من الخطوط الأفقية باستخدام اثني عشر قالبًا من السيليكون، وجدران الدرج وقلب المصاعد، وهي مصبوغة باللون البني المحمر، مع 700 رسمة كمحفزات للفكر. حصل المبنى على جائزة العلامة الخضراء البلاتينية للاستدامة من هيئة البناء والتشييد في سنغافورة قبل اكتماله. وعموماً فان اعمال مكتب «استديو هيذرويك» تظهر ابداعا لافتا في اختيار مقاربتها التصميمية. وهو يجتهد في تحويل موضوعة التصميم العادية الى انجاز غير عادي بابتكاره حلولا مدهشة ترتقي لتكون استثنائية!

ادناه بعض اقول «تُومَاسْ هِيذرُويكْ» المنشورة والتى تعكس وتوضح اسس مقاربته التصميمية للاعمال التى يتعاطى معها. فالتعرف على بعض تلك الاراء والافكار الخاصة بالمصمم البارع، يمكن ان يكون ذا فائدة قصوى في فهم اعمق لكنه تلك التصاميم وادراك جوهرها بيسر وسهولة.

يقول «تُومَاسْ هِيذرُويكْ» عن مكتبه وعن زملائه المصممين نحن».. فريق يضم أكثر من 250 شخص لحل المشكلات مكرسين لجعل العالم المادي من حولنا أفضل للجميع. انطلاقًا من ورشة العمل المشتركة واستوديوهات التصميم التي لدينا في لندن وشانغهاي وسنغافورة وكاليفورنيا، نقوم بإنشاء المباني والمساحات والأشياء والبنية التحتية. نريد أن نرى عالمًا تكون فيه المباني والأماكن من حولنا أكثر متعة وجاذبية وإنسانية بشكل جذري. يشترك فريقنا من المهندسين المعماريين والمصممين والصناع والمهندسين ومهندسي المناظر الطبيعية في الدفع لتصميم أماكن مفعمة بالعاطفة والمسّرة، والتي تحتفي بتعقيدات العالم الحقيقي. إن النهج الذي يقود كل شيء هو الإبداع في التجربة الإنسانية بدلاً من أي اعتقاد تصميمي ثابت." وفي مكان اخر يشير المصمم الى اسلوب عملهم «.. نبدأ كل مشروع من الصفر، ونضع جانبًا أي أفكار مسبقة. ومن خلال طرح الأسئلة والافتراضات الصعبة، نكشف عن القضايا الحقيقية والحلول المحتملة في قلب كل مشروع». ويذكر ايضاً «.. نعد العمل مع الحرفيين والمقاولين المتخصصين جزءًا لا يتجزأ من عملية التصميم لدينا. في ورشة العمل المخصصة لدينا، نقوم باستمرار باختبار الأفكار التي تؤدي إلى أشياء أو أماكن ثلاثية الأبعاد ومثيرة للاهتمام ماديًا... فريقنا عبارة عن متعاونين يتمثل دورهم في الاستماع ثم المساعدة في قيادة كل مشروع. نجد إجابات تجمع بين البراعة والإلهام مع تصميمات ميسورة التكلفة وقابلة للبناء ومستدامة».

يصر «تُومَاسْ هِيذرُويكْ» بأن التخيل «..هو الجزء السهل. ارفف الكتب المعمارية مليئة بالابداعات الرائعة التى لم يتم تحقيقها ابداً. الجزء الصعب هو اقناع الاشخاص المناسبين بالايمان برؤيتك.». وقد اثبت هيذرويك نفسه في وقت مبكر باعتباره مقنعاً عظيماً.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت

حوار مع الروائية الفيلسوفة أيريس مردوخ : الرواية الجيدة هي هِبة للإنسانية

"الزنا".. أحدث روايات الكاتب البرازيلي الشهير باولو كويلو

هل دجلة الخير للجواهري نهر؟

كيف تموت منتحرا؟

مقالات ذات صلة

فشل الذكاء الاصطناعي في مضاهاة الخلق الأدبي والفني
عام

فشل الذكاء الاصطناعي في مضاهاة الخلق الأدبي والفني

د. نادية هناويمنذ ثورة أوروبا الصناعية في القرن التاسع عشر، والعالم غير الصناعي ينظر بعين الريبة إلى المستحدثات الصناعية والمبتكرات العلمية، متوجساً مما ستصل إليه الثورة العلمية من اختراعاتٍ وتقنياتٍ، فيضع احتمالاتٍ مستقبليةً فيها...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram