اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناديل: G-Class ….!!

قناديل: G-Class ….!!

نشر في: 18 مايو, 2024: 10:44 م

 لطفية الدليمي

أذكرُ سنوات السبعينيات من القرن الماضي. كانت سنوات مفصلية وبخاصة بشأن ما حصل في مصر من تغيرات بنيوية في الاقتصاد والسياسة.

السياسة ظلّ الاقتصاد كما هي الحرب امتداد للسياسة بوسائل أخرى عنفية الطابع. شاع في مصر حينها مفردة (الانفتاح)، وصار لهذه المفردة مبشرون ومريدون وعبيد أذلّاء حتى بلغ الامر مبلغاً قيل معه أنّ الرئيس الراحل السادات صرّح لبعض خلصائه أنّ مَنْ لن يستطيع أن يكون ثرياً في طور الانفتاح هذا فلن يعرف طعم الثراء أو يشمّ رائحته حتى ولو من بعيد في طور لاحق. ربما كانت السينما المصرية (سينما المقاولات على وجه التحديد) أكثر الواجهات الثقافية التي بشّرت بمعالم هذا الانفتاح: بوتيك لبيع الملابس المستوردة الفاخرة، السيارة المارسيدس، التجارة بالعملة، مكاتب التصدير والاستيراد، الوكالات التجارية،،،، إلخ. لن نتناسى بالطبع تجارة الشنطة والممنوعات؛ فهي في رأس القائمة. القانون السائد لمرحلة الانفتاح هو: دع عنك الشعارات الثورية والتفت إلى نفسك. إذا صرت ثرياً فأنت ناجح بصرف النظر عن الوسيلة، وبعكس هذا فأنت فاشل يُرثى لحالك. هذا بعضُ ما أراد الاعلام تكريسه بكل الوسائل.

باستثناءات فردية بسيطة يمكن القول أنّ رائحة المال هي التي تقود كلّ المناشط البشرية. المال هو العجل المذهب الذي تطوف حوله جموع البشر. هذه حقيقة لن نختلف بشأنها ولها مصاديقها العملية المشهودة الكثيرة. لو أخرجنا علاقتنا الشخصية بمن نحب (الام والاب وبضعة معدودة من المقرّبين لنا) فإنّ كلّ علاقاتنا محكومة بقانون المال وسطوته رغم كلّ الاعلانات الفلكلورية الكاذبة. كيفية صناعة المال، وآليات هذه الصناعة، وطرائق تعاملنا مع المال هي التي تشكّل الفرق الحاسم بيننا وبين المجتمعات الاخرى في العالم.

نحنُ طفيليون، ريعيون، لم ندلف مرحلة التقنيات التي تشكّلُ عنصراً حاسماً في تثوير وتعظيم المداخيل الرأسمالية، ولم نختبر الطور الذي يمكن فيه للرأسماليات الرمزية (العقل البشري وإمكاناته المخبوءة) أن تتحوّل لرأسمال حقيقي، فضلاً عن أننا نهدرُ مصادر ثروتنا المادية الحقيقية (الزراعة في رأس القائمة). سنحتارُ كثيراً عندما نفكرُ بأنّ دولة صغيرة مثل الدانمارك يبلغ دخلها الاجمالي السنوي ما يقارب النصف تريليون دولار. الامر يتشابه مع هولندا وبلجيكا ولكسمبورغ. معظم سكّان هذه البلدان يعتمدون على الدراجات الهوائية في تنقلاتهم الداخلية حتى صار لهذه الدراجات ممرات جانبية محاذية للشوارع الرئيسية. صار من المشاهد المألوفة أن يذهب رؤساء وزراء هذه البلدان إلى مقراتهم الرسمية وهم يعتلون دراجاتهم الهوائية. لا أحد من مسؤولي هذه البلدان أو من مواطنيهم ركبه شيطان المارسيدس أو ال بي أم دبليو أو الكاديلاك أو (حديثاً) الـ جي كلاس.

ربما سمع كثيرون منّا برجل إسمه وارن بافيت Warren Buffett. إنه رئيس مجلس إدارة شركة بيركشاير هاثواي الامريكية وأحد أثرى البشر في العالم. تبلغ ثروته ربما ثمانين بليون دولار في الوقت الحاضر وهي لا تفتأ تتزايد كل يوم. هذا الرجل يستخدم سيارة مستعملة تعود للسبعينيات من القرن الماضي، واشترى لشقته أثاثاً مستعملاً، ويأكل قليلاً؛ لذا تراه نحيفاً لايكاد وزنه يزيد عن سبعين كيلوغراماً رغم تجاوزه سن الثمانين. ربما الشيء السيء الوحيد في نظامه الغذائي أنه يشرب علبتي كوكاكولا كل يوم. مع هذا تراه يقرأ بانتظام ويكتب ملخصات لما يقرأ. الافكار هي المادة التي تشغله، وكيفية الارتقاء بالحياة ومواجهة التهديدات المحتملة لها هي فكرة أساسية في عقله وحياته. ليس كائناً يصحو وينام وهو يتشمّم رائحة دولاراته الجديدة. بافيت صديق مقرّب لِـ (بل غيتس)، ويشترك الاثنان في حب القراءة وتحويل الافكار إلى سياسات حقيقية. بافيت مثل غيتس لديه صندوق مالي للأعمال الخيرية، وقد أنشأه بعدما تبرّع بنصف ثروته الضخمة. عندما يلتقي بافيت مع غيتس يتحدثان في الازمة المناخية، واللقاح الجديد ضد الملاريا، وكيفية تصنيع مفاعل إنشطاري ثوري يختلف عن المفاعلات القديمة. لا أحد منهما لديه الرغبة أو الحماسة للحديث عن آخر موديلات السيارات أو إمتلاكها. ليست الثروة شيطاناً مكروهاً. هي قد تصبح قوة نافعة لو أردناها كذلك. رأيتُ فيديوهات عديدة لغيتس مع بافيت وهما يتحدثان حول كتاب منشور حديثاً ويتناولان شطيرة همبرغر عادية مع علبة كوكاكولا. حتى ملابسهما عادية لم يتحايل أي منهما في محاولة إبراز (البراند) المطبوع عليها لأنها أصلاً ليست واحدة من هذه البراندات التي يتقاتل عليها كثيرون.

ما خطْبُنا نحن مع المال؟ لماذا صارت الـ جي كلاس مطمحاً تنكسر دونه رقاب وتنحني له رؤوس وقيمٌ؟ التخريجة السائدة هي أنّ هذه الاستعراضات بتملّك السيارات الثمينة والبراندات الغالية في المجوهرات والملابس والاكسسوارات ليست سوى تعويض عن جوع عتيق. نعم هذا صحيح؛ لكنه ليس كل الحقيقة. أو لنضع الامر في صياغة أخرى: هذا الجوع المستعصي الذي لا يشبع تجاه المال واستعراضات الثراء هو الظاهر من جبل الجليد الذي يخفي حقيقة كبرى وراءه. الحقيقة الكبرى هي أننا هنا مجاميع من البشر الطفيليين، نتقاتل على ثروة طبيعية، لم نستطع تطوير قدراتنا وإمكاناتنا لخلق مصادر غير طبيعية للثروة باستخدام العلم وتقنياته المتقدمة، ولم تنشأ لدينا دولة حقيقية فيها قانون حقيقي يحكم الجميع تحت مظلة المواطنة، والحكومات لدينا ليست سوى رب عشيرة يوزع المال كأنه يوزّع مكرماته على الآخرين. عندما تغيب المواطنة وتختفي معالم القانون العادل تصبح الحياة لعبة من أجل حيازة المال فقط. لماذا؟ لأنّ المال يمنحك حقوقاً لا يحوزها غيرك ممن ليست له ذات الامكانيات المالية التي تتوفّر لك. بهذا المال سيمكنك فعل ما تريد، ورشوة من تريد، والالتفاف على القانون وكسر رقبته تحقيقاً لمصالحك. المال هو الرب الاعلى المعبود في مجتمعات مثل مجتمعاتنا رغم كلّ الاعلانات المغالية في التديّن.

المال عندنا يراد له وظيفة غير وظيفة التملّك أو القدرة على اقتناء ما شاء المرء الحائز للمال من خيارات الاقتناء والتملّك. المال له وظيفة إشعارية للآخرين: حقوقي أكبر من حقوقك، وعلاقاتي أوسع من علاقاتك، وقدراتي في بلوغ خزائن المال أعظم من قدراتك. لذا أنت ترى كثرة من المشتغلات في الاعلام وسواه يعمدن إلى التركيز على هذا الجانب الاعلاني وكأنّهنّ يُردن القول: نحن طبقة لا تستطيعون الارتقاء إليها أو مجرّد الحلم ببلوغ منزلتها. هذا ما يفكّرن فيه ونحن نعرف تواضع مستوياتهن التعليمية والدراسية والمهنية بمقارنة بسيطة مع نظيراتهنّ الغربيات اللواتي صارت بعض برامجهن منصات ثقافية حقيقية.

بعضهنّ سيضعن هذا الكلام في باب (حسد عيشة). هذا تسويغ مخاتل يراد منه الالتفاف على الحقائق وواقع الحال. لا أظنّ انسانا سيحسدُ إعلامية تتباهى بسيارتها الـ جي كلاس وكلّ ما تفعله هو تدوير الوجوه التي تلتقيها في برامجها الاعلامية المملة التي صرنا نعرف تفاصيلها حتى قبل أن تبدأ. إعلاميونا الذكور لا يكادون يختلفون عن الاعلاميات سوى في أنهم أكثر حيلة وشطارة، ولن تدفعهم نوازعهم الداخلية للإعلان عمّا يمتلكون من سيارات أو براندات. (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان): هذا هو شعارهم العتيد.

المال قوة. هذه حقيقة لا يصح التغافل عنها. قد يكون المال وسيلة طيبة للبناء والارتقاء بالنفس عندما يوظّفُ بطريقة خيّرة بعيداً عن الاستعراضات السمجة؛ لكنّ المال ذاته سيكون أسوأ من (براز الشيطان) عندما يتوهم المرء أنه مصنوع من مادة غير مادة البشر، وأنّ حقوقه يجب أن تكون أكبر وأوسع من حقوق الآخرين لا لسبب سوى أنه يمتلك سيارة جي كلاس...!!!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

اليوم ..خمس مباريات في انطلاق الجولة الـ 36 لدوري نجوم العراق

بدء التصويت في انتخابات فرنسا التشريعية

"واتساب" يختبر ميزة جديدة عند الفشل بارسال الصور والفيديوهات

تطوير لقاحات جديدة للقضاء على الحصبة نهائياً

الأونروا: سكان غزة فقدوا كل مقومات الحياة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

المتفرجون أعلاه

جينز وقبعة وخطاب تحريضي

تأميم ساحة التحرير

زوجة أحمد القبانجي

الخارج ضد "اصلاحات دارون"

العمودالثامن: جمهورية بالاسم فقط

 علي حسين ماذا سيقول نوابنا وذكرى قيام الجمهورية العراقية ستصادف بعد أيام؟.. هل سيقولون للناس إننا بصدد مغادرة عصر الجمهوريات وإقامة الكانتونات الطائفية؟ ، بالتأكيد سيخرج خطباء السياسة ليقولوا للناس إنهم متأثرون لما...
علي حسين

قناديل: لعبةُ ميكانو أم توصيف قومي؟

 لطفية الدليمي أحياناً كثيرة يفكّرُ المرء في مغادرة عوالم التواصل الاجتماعي، أو في الاقل تحجيم زيارته لها وجعلها تقتصر على أيام معدودات في الشهر؛ لكنّ إغراءً بوجود منشورات ثرية يدفعه لتأجيل مغادرته. لديّ...
لطفية الدليمي

قناطر: بين خطابين قاتلين

طالب عبد العزيز سيكون العربُ متقدمين على كثير من شعوب الأرض بمعرفتهم، وإحاطتهم بما هم عليه، وما سيكونوا فيه في خطبة حكيمهم وخطيبهم الأكبر قس بن ساعدة الإيادي(حوالي 600 ميلادية، 23 سنة قبل الهجرة)...
طالب عبد العزيز

كيف يمكن انقاذ العراق من أزمته البيئية-المناخية الخانقة؟

خالد سليمان نحن لا زلنا في بداية فصل الصيف، انما "قهر الشمس الهابط"* يجبر السكان في الكثير من البلدان العربية، العراق ودول الخليج تحديداً، على البقاء بين جدران بيوتهم طوال النهار. في مدن مثل...
خالد سليمان
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram