اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > ما يدرسه علم سرد الحيوان

ما يدرسه علم سرد الحيوان

نشر في: 18 مايو, 2024: 10:43 م

د. نادية هناوي

كان من نتائج تبني المدرسة الانجلوامريكية لنزعة ما بعد الإنسان، أن توسعت مدارات علوم السرد ما بعد الكلاسيكية باتجاهات بشرية وغير بشرية،

ويعد علم سرد الحيوان واحدا من تلك العلوم المستجدة وميدانا بحثيا يُختبر فيه كل ما هو نظري وإجرائي له صلة بعلاقة الانسان بالحيوان من جهة ويتقارب أو يتداخل من جهة أخرى مع ميادين علمية أخرى، لعل أهمها علم البيئة من ناحية ما للإنسان من دور رئيس في دمار الطبيعة وتهديد نظامها الأحيائي النباتي والحيواني. وساهم في ذلك كله ظهور جمعيات ومنظمات تدافع عن البيئة وتدعو الى الرفق بالحيوان.

وكثيرة هي النظريات العلمية التي لها موقع وأهمية في دراسة علم سرد الحيوان كنظرية(أصل الأنواع) لتشارلز داروين(1809-1882) الذي رأى أن الانسان خضع طوال تاريخه لما تخضع له الكائنات الحية وعد الإنسان جزءا من المملكة الحيوانية. وسبق داروين في طرح هذه الفكرة العالم الفرنسي جاك لامارك(1747- 1829) الذي رأى أن التغيرات في أشكال الكائنات تفسر في إطار محاولات التكيف مع التغيرات في البيئة. أما النظرية الفرويدية فأكدت أن سلوك الانسان يحدده اللبيدو أو الغريزة الجنسية، وركزت النظرية الماركسية على الجوانب المادية والاقتصادية في فهمها لتطور الانسان وتقدم البشرية.

ولا يتوقف تداخل علم سرد الحيوان على هذه النظريات، بل هو يساير مختلف الاتجاهات التي طورتها الدراسات الانثروبولوجية بعد الحرب العالمية الثانية، وأغلبها تضادت مع الواقعية والوجودية والفلسفة الميتافيزيقية. ونذكر من تلك الاتجاهات مثلا اتجاه المثاقفة الذي فيه ارتبطت الانثربولوجيا بعلم النفس التحليلي واتجاه ما بعد الاستعمار والمتمثل بالدراسات الثقافية والدراسات النسوية ودراسات البيئة. وفي هذه الاتجاهات وغيرها يحتل الحيوان موقعا ثانويا حينا ورئيسا حينا آخر ومن نواح عدة لها صلة بالطبيعة البشرية كتفسير التباين بين الشعوب المتغايرة في عاداتها وتقاليدها وأساليب ادراكها وثقافاتها إزاء ما يحيط بها من كائنات حية وبيئات متنوعة.

وهو أمر ظهر الاهتمام به منذ ستينيات القرن العشرين على يد ليفي شتراوس في دراساته لأساطير الشعوب وتحليلاته البنيوية واللغوية التي أسفرت عن كشوفات مهمة في ما يخص علاقة الانسان بالحيوان ثم جاءت الدراسات الاثنوجغرافية وأسست قواعدها على يد مجموعة من الانثروبولوجيين الامريكيين الذين سعوا إلى تطوير الاتجاهات السائدة في النقد الأدبي. ثم كان للأمريكيين جوليان ستيوارد ومارفين هريس دورهما في التأسيس للدراسات البيئية – يطلق عليها أيضا الايكولوجية الثقافية – كفرع انثروبولوجي ساهم في بلورة علم سرد الحيوان. واستعاد بعض مفكري ما بعد الحداثة والفلاسفة المعاصرين منظورات ديفيد هيوم الفكرية وبخاصة التي تتعلق بالطبيعة البشرية، وأسسوا مفاهيمهم على فكرة انتقاد الالتزام المفرط بالإنسان لا بالمعنى الأخلاقي، بل بمعنى أن الإنسان في تدنيه وبوهيميته ليس هو وحده الكائن المتعالي والمهيمن مع نقض ما وضع من تنظيرات حول الطبيعة البشرية، منطلقين من حقيقة ما سببته الحرب العالمية الثانية من كوارث وأزمات وهواجس بفناء الجنس البشري. ومن هؤلاء موريس مرلوبونتي الذي سار على خطى هوسرل في النظر الى الانسان بوصفه جزءا من الطبيعة الايكولوجية. ورفض الفلسفات المتعالية والكلاسيكية كالديكارتية والكانتية التي ترى أن مشكلة الإنسان في إدراكه لمحيطه تكمن في أنه يشكل لوحده وبحد ذاته معرفة أصيلة. وأساس رفض مرلوبونتي لهذه الفلسفات هو أنها تحكم على ما هو كائن من خلال ما يجب أن يكون ووفقا لما تقتضيه فكرة المعرفة من دون أن تطرح – أي تلك الفلسفات -مشكلة الآخر، بوصفه الآدمي وبوصفه غير الآدمي، بل تطرح مشكلة الأنا المتعالية التي يراها مرلوبونتي هي أنا الآخر أيضا وكيف أنها تتخذ من الواقع موضوعا رئيسا لها، فيصبح إهمال الآخر من ثم مشكلة بالنسبة إليها أيضا.

ومن المفكرين الذين ساهموا في تعزيز نزعة ما وراء الانسان جاك دريدا الذي نشر عام 2000 مقالته (الحيوان الذي أكون) وفيها رأى أن الحيوان يملك وجودا متجانسا ومتناغما مثلنا، وأن الملايين من الكائنات الأخرى تتطلب منا أن نبدأ في التعامل معها بجدية. واستعاد ما قاله ميشيل دي مونتيني(1533 - 1592) حين كتب اعتذارا إلى ريموند سيبوند، متسائلا عن علاقته بقطته. فالقطة كيان حقيقي وتحديقها فيه له معنى" إنه عبور للحد من نقطة الأفضلية يستطيع من خلالها المرء أن يعلن نفسه لنفسه أو أن تعلن نفسها لنفسها".

وكذلك طرح جان فرانسوا ليوتار أسئلة كثيرة حول علم الأجناس athology وما هو غير إنساني وتساءل: ماذا لو كان البشر بذاك الإدراك الحسي الإنساني في عملية إكراهية لتحويلهم إلى غير البشر؟. ماذا لو كان ما نعرف انه مناسب للبشر قد أصبح ملائما لغير البشر؟.

وتأثر فرانسيس فوكوياما في كتابه(مستقبلنا ما بعد البشري عواقب ثورة التقنية الحيوية) بالنظرية الدراوينية، مفترضا أن الإنسان في أصل تكوينه حيوان ثقافي و(من المستحيل أن نتحدث عن حقوق الإنسان وبالتالي عن العدالة والسياسة والفضيلة بصورة أكثر عمومية من دون أن يكون لدينا مفهوم ما عن ماهية البشر كنوع حي. فالبشر أحرار في صوغ سلوكياتهم الخاصة لأنهم حيوانات ثقافية قادرة على تعديل الذات). وذهب فوكوياما أيضا إلى أنه مثلما أن الحيوانات تتصارع من أجل البقاء والاعتراف بالغلبة فكذلك البشر يتصارعون لكن بذاكرتهم وتعلمهم وقدرتهم الهائلة على المنطق المجرد يستطيعون توجيه الصراع من أجل الاعتراف بالايديولوجيات والمعتقدات الدينية.

وتعد دراسة ديفيد هيرمان الموسومة(اتوبوغرافيا الحيوان أو سرد ما وراء الإنسان) بمثابة نقطة مرجعية لكل المساهمات البحثية التي تلتها؛ ففي هذه الدراسة، وضع هيرمان معايير السرد السيري الذي يتجاوز نطاق الإنسان إلى الحيوان وأنماط هذا السرد وآليات تحليله. ومن المفاهيم التي وظفها هيرمان في هذه الدراسة(السارد الحيوان، التخييل واللاتخييل، أدب الأخلاق، سرديات الذات) واتخذ من المجموعة القصصية(الحيوانات فقط only the animals)2014 للكاتبة الجنوب افريقية سيريدوين دوفي (1980-) مثالا تطبيقيا للسرد السيري الذي فيه الحيوان هو السارد الذي يحدد للإنسان فاعليته ويتولى توجيهه. وفي كل قصة من هذه القصص يسرد الحيوان قصة حياته بعد وفاته، ويصف المواقف والأحداث التي مرت به على مدار حياته وصولا إلى لحظة السرد الحالية، وخلال ذلك السرد، تكون العلاقة مزدوجة أو ذات طبقات ما بين المؤلف الذي كتب النص، والسارد الحيوان الذي يحكي تجربته وتجارب الأشخاص الذين عرفهم وكانت له علاقات بهم وتواصل معهم وجهاً لوجه، وما يرافق ذلك من ردود أفعال وسياقات كلام تتطلب من هذا السارد شرحا أو تبريرا أو تمثيلا سرديا. يقول هيرمان:(إن مثل هذه القصص غير الواقعية توسِّع نطاق التخمين حول ما قد يقوله الحيوان – الذي له ثقافة مختلفة وقد يكون قادما من عالم خارجي إلى كوكب الأرض - عن شؤون حياته مسترجعا أو مستبقا الأحداث ومظهرا نفسه بشكل واقعي وإنساني كسارد ذاتي يقدم وصفًا خياليًا، سواء تمكن بكلامه من عبور حدود النوع البشري أو لا). وهذا هو (سرد ما وراء الإنسان) وله طرائق خاصة في بناء السيرة الذاتية ووظائف السارد الحيوان بضمير الأنا، ويرى هيرمان في هذه الطرائق ما يفتح المجال لمزيد من الأبحاث حول الفهم الثقافي للحيوان والتفاعل بينه وبين الإنسان.

ولا شك في أن علم سرد الحيوان سيساهم في تقديم طروحات جديدة مستقبلا في مجال النظر إلى الإنسان عامة وتطوير النظرية السردية خاصة، اعتمادا على ما للحيوان من أدوار وفعاليات عقلية واعية وغير واعية سواء على المستوى الحياتي في ما تتألف منه استجاباته الحركية من ردود فعل عاطفية وما تتركب منه أفعاله من أبعاد معقولة وغير معقولة أو على المستوى السردي في ما ينتجه عقل الشخصية الحيوانية من عمليات تحمل وجهات نظر مختلفة، بعضها يتخطى المنطق والزمن، ويذهب إلى ما هو غير طبيعي ولا عقلاني وبعضها الأخرى يحاكي الواقع المعيش برؤية طبيعية ومنطقية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram