اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > هل سيتحول الكائن البشري إلى (سيبورغ) نصفه بيولوجي ونصفه ألكتروني؟

هل سيتحول الكائن البشري إلى (سيبورغ) نصفه بيولوجي ونصفه ألكتروني؟

نشر في: 14 مايو, 2024: 11:09 م

أنِلْ سِثْ*

ترجمة: لطفية الدليمي

هل نحنُ على عَتَبَة حقبة جديدة تصبح فيها الأعطابُ الدماغية شيئاً من الماضي، ونصبح فيها جميعاً بشراً متناغمين مع متطلبات الذكاء الاصطناعي؟

هذا المستقبل الاقرب إلى رواية خيال علمي قد يبدو على مبعدة خطوة واحدة من أن يصبح حقيقة ماثلة بعد إعلان إيلون ماسك Elon Musk أنّ شركته الخاصة بالتقنية الحيوية نيورالنك Neuralink نجحت للمرة الاولى غير المسبوقة في التاريخ البشري في زراعة رقاقتها التقنية في دماغ بشري. لكن هل صارت عملية تكييف الدماغ البشري والتلاعب به بوساطة تقنية بشرية أقرب لأن تكون ممارسة روتينية في القريب العاجل؟ وقبل هذا: هل هذا النمط من التعامل البشري مع الدماغ هو شيء نريده ونسعى إليه؟

تأسّست شركة نيورالنك عام 2016، ومنذ ذلك الحين تُعدُّ ضيفاً جديداً في عالم تقنيات واجهات الدماغ-الآلة brain-machine interfaces التي تختصرُ في العادة بِـ BMIs. التقنية الاساسية في هذه الواجهات سبق لها أن وجِدت منذ عقود، ومبادئ عملها العامة تبدو مفهومة إلى حد بعيد. كلّ واجهة دماغ-آلة تتكوّن من عدد من المجسّات - هي في العادة أسلاك رفيعة جداً- تُغرَسُ في مواضع محدّدة من الدماغ البشري. هذه المجسّات تقومُ بالتنصّت على وتسجيل فعالية الخلايا الدماغية القريبة منها، ومن ثمّ تقوم بنقل المعلومات المستحصلة إلى جهاز الحاسوب المتصلة به. الحاسوب من جانبه يعملُ على معالجة هذه المعلومات لغرض فعل أمرٍ مفيد ربما يكون السيطرة على روبوت أو تشغيل مُركَّب صوتي. يمكنُ لواجهات الدماغ-الآلة العملُ بطريقة معاكسة أيضاً: حثُّ فعالية عصبية محدّدة عبر التحفيز الكهربائي المنقول لها بوساطة المجسّات. هذه الفعالية من شأنها إحداثُ تغيير جوهري في ما نفكّرُ، أو نشعر، أو نعمل.

تشهد تقنية واجهات الدماغ-الآلة تطوّراً متسارعاً لأسباب عملية وبحثية مسوّغة. توجد إمكانية كبرى في إستعادة الحركة لدى أشخاص أصيبوا بالشلل، وكذلك الاشخاص المصابون بالعمى يمكن أن يستعيدوا إمكانية الابصار ثانية، وثمة العديد من الامكانيات الواعدة الاخرى. لكن، وبعيداً عن ميدان التطبيقات الطبية المباشرة والمفيدة، توجد إمكانية لأنْ تمدّنا هذه التقنيات – أو تمدّ بعضنا في الاقل- بقدرات إدراكية ومعرفية جديدة وغير مسبوقة. هذا الميدان المتقدّم من العمل البحثي يستجلبُ معه معضلات أخلاقياتية خطيرة، وما تلك الضجة الاعلامية الكبرى التي رافقت إعلان شركة نيورالنك سوى شاهدة عملية يمكن أن تفسّر-على نحو جزئي في الاقل- تبشير ماسك الاحتفالي بإنسان المستقبل السايبورغي.

التوظيف الطبي لتقنيات واجهات الدماغ-الآلة هو ليس بالامر المعقّد نسبياً، وقد تحققت فيه نجاحات عديدة من سنوات سابقة. التجارب الطبية البشرية بشأن هذه التقنيات تعودُ بتاريخها إلى تسعينات القرن العشرين. شركة نيورالنك لم تكن السبّاقة في هذه التجارب بأي حال من الأحوال؛ فقد سبق لباحث أمريكي من معهد جورجيا التقني، يدعى فِلْ كينيديPhil Kennedy، أن قام بزرع جهاز تحفيز اساسي في جسد مريض مصاب بشلل خطير، وبعد تمرين مكثّف تمكّن هذا المريض من السيطرة على مؤشّر حاسوب من خلال التفكير الموجّه Focused Thinking. (قام كينيدي ذاته عام 2005 بزراعة جهاز واجهة دماغ-آلة في دماغه!!؛ وهو بفعلته تلك يكون مثالاً عملياً على شخص تلبّسته رؤية عارمة بتطبيق أفكاره اليوتوبية مثلما يفعل ماسك). أعلنت فرق بحثية أخرى وفي زمن أقرب ليومنا هذا عن تطوّرات أكثر إدهاشاً. في السنة السابقة، 2023، ساعد باحثون في مدينة لوزان السويسرية رجلاً مشلولاً على المشي، وفي جامعة ستانفورد الامريكية إستخدم علماء واجهة دماغ-آلة لمساعدة مرضى مصابين بإختلالات عصبية حركية Motor Neurone Disease -من الذين فقدوا القدرة الجسدية على الكلام- على استعادة قدراتهم على مخاطبة الآخرين بواسطة أفكارهم فحسب. أستُخدِمت واجهات الدماغ-الآلة أيضاً في كبح النوبات الصرعية، وفي تخفيف حدّة أعراض مرض باركنسون من خلال التحفيز العصبي الاستهدافي المُوجّه.

في الوقت الذي لا يزال أمام شركة نيورالنك بعض العمل للحاق بمسيرة التطوّر المتسارعة فإنّ براعتها الهندسية قد تساهمُ في التعجيل بتنضيج التطبيقات الطبية المرغوب فيها. لا بأس من ذكر بعض هذه التطبيقات الطبية التي ستُحدِثُ فرقاً نوعياً: تطوير الروبوتات الجراحية عالية الدقّة والتي تستطيع إنجاز زراعات دماغية بتعقيد لايستطيعه سوى كائن بشري متعالٍ على قدرات البشر، زيادة كثافة المجسّات في الرقاقات المزروعة في الادمغة البشرية، تعظيم التطبيقات الطبية التي تتطلبُ كميات كبيرة من القدرة الاحتسابية. الهدف الاوّل المُعلَنُ لشركة نيورالنك هو استعادة الحركة لدى الاشخاص المشلولين، ويبدو أنّ. الشركة ستحقّقُ تقدّماً سريعاً. هذا ما تشي به النتائج الاولية المُخْتَبَرة.

من جانب آخر فإنّ تطوير واجهات الدماغ-الآلة هو معضلة علمية وفي الوقت ذاته يمثّلُ تحدّياً هندسياً، وقد لا تكون المقاربة الهندسية التي يتبعها ماسك وينفق عليها ببذخ جلي مبشّرة بإنتقالة سلسة في سلسلة التطوّر التقني لهذه الواجهات القابلة للتطبيق واسع النطاقات. بخلاف السيارات الكهربائية والصواريخ الفضائية فإنّ فهم كيفية عمل الدماغ البشري لم يزل معضلة علمية لم تبلغ طور كشف كلّ مغاليقها، ولا يبدو أنّ هذا الكشف سيأتي في أي وقت قريب. ثمة موضوعة أخرى جوهرية: البحث الطبي في أيّ حقل كان يجب أن يتقدّم ببطء وروية محسوبة وذلك لتقليل معاناة الحيوانات التي ستجرى عليها التجارب الأولية، وكذلك لضمان التأكّد من سلامة البشر عند استخدامهم لهذه التطبيقات الطبية. لا أحد منّا يرغبُ بزرع رقاقة دماغية في رأسه بكيفية سريعة غير مخطّط لها بطريقة دقيقة وعلى النحو المماثل لما حصل مع أحد صواريخ ماسك التي تحطّمت قبل وقت ليس بالبعيد عن يومنا هذا.

هذه التفاصيل الدقيقة تدفعنا للتفكّر المجتهد في طائفة عريضة من المعضلات الاخلاقياتية التي تترافق مع تقنية واجهات الدماغ-الآلة، وكذلك لضرورة التمييز الصارم بين الاستخدامات الطبية لهذه التقنية والتعزيز الادراكي لها. من المؤكّد أنّ أغلبنا قد يوافقُ على أنّ معالجة الاعطاب العصبية أمرٌ طيّب؛ لكنّ الأخلاقيات المتصلة باستخدام هذه التطبيقات ولاسيما في تعزيز النطاقات الادراكية للبشر تبقى أمراً غامضاُ محفوفاً بالتحسّبات والتوقّعات المحتملة غير السارة.

أولاً وقبل كل شيء ثمة أسئلة تختصُّ بالجدوى. يرسم لنا ماسك صورة لمستقبل بشري قد يلجأ فيه أغلبنا لزراعة رقائق في أدمغتهم بقصد الارتقاء بقدراتهم الادراكية والمعرفية في مسعى يتجاوز الحاجات الطبية المباشرة(مثل علاج حالات الشلل او فقدان القدرة على الكلام،،،إلخ). "فكّ القيد عن إمكانات البشر الهائلة غداً": هذا هو شعارُ الموقع الالكتروني لشركة نيورالنك. يصوّر لنا ماسك الامر بكلّ بساطة: إذهبْ في زيارة سريعة إلى مختصّ في الجراحة العصبية وسيتكفّلُ هو في عيادته الكائنة في بداية الشارع الذي تقع شقتك فيه بزراعة رقاقة في دماغك وجعلك شخصاً فائق الذكاء. شخص تتجاوز قدراته الادراكية والمعرفية حدود الذكاء البشري الطبيعي المعروفة والممكنة.

لكن كم هو ممكنٌ هذا الامر؟ التحديات العلمية التي يتوجّبُ على واجهات الدماغ-الآلة إجتياز عقباتها الكثيرة تعني أنّ أولى التطبيقات غير الطبية لها ستقتصرُ على أمور محدّدة مثل السيطرة على التطبيقات في هواتفنا الذكية أو حواسيبنا أو أجهزتنا اللوحية. هل سيقبلُ البشر – أو حتى بعضهم- الخضوع لجراحة طبية دماغية برغبتهم الطوعية من أجل السيطرة على تصفّح وسائل التطبيقات الاجتماعية لديهم عبر أدمغتهم فحسب؟ هل هذا ثمن معقول لهذه الجراحة الطوعية؟ أعلمُ أنني لن أفعل. لديّ في الوقت الحاضر واجهات تعامل رائعة ومؤثرة مع العالم مثل يديّ وفمي. أظنّ أنّ ثقباً في جمجمتي بقصد زراعة رقاقة في دماغي سيكون أمراً ينطوي على مبالغة كبيرة من غير جدوى كبيرة تكافؤها.

بعد هذا ستواجهنا أسئلة أعمق بشأن المرغوبية Desirability. أحد أوجه القلق بشان إمكانية الوصول التفاضلي لقدرات التعزيز الادراكي والمعرفي (أي حيازة بعض الناس لهذه القدرات دون سواهم، المترجمة) سيكون أمراً من شأنه خلق طبقة نخبوية من بشر ذوي إمكانات معرفية وإدراكية متفوقة للغاية. الامر الاكثر مدعاة للقلق يكمنُ في الانحياز الخوارزمي Algorithmic Bias، وهي معضلة معروفة وموصوفة بدقّة بين العاملين في نطاق الذكاء الاصطناعي؛ لكنها لا تزال غير مفهومة بين النطاقات الشعبية الواسعة. لو أنّ واجهات الدماغ-الآلة تمّ تدريبها على بيانات مستخلصة من قطاع محدّد من المجتمع فستكون النتيجة المحتّمة أننا سنتأثّر بتلك البيانات وستتشكّل ردات فعلنا السلوكية تبعاً لها. هذا الامر سيغرسُ تحيزات إجتماعية بصورة مباشرة في أدمغتنا؛ الحقيقة التي سيترتبُ عليها تعزيز نمطٍ من الثقافة العقلية والسلوكية أحادية اللون والتوجّه.

يوجد أمر آخر يستوجبُ الانتباه والتحسّب: ما الذي قد يحدث لو سمحنا للشركات والمؤسسات بلوغَ بياناتنا العصبية وبخاصة تلك الخاصة بأكثر معلوماتنا الشخصية حميمية وفردانية؟ كثيرون منّا إختبروا المعضلات الخاصة باعتبارات الخصوصية Privacy في أيامنا هذه ويعرفون مدى تعقيدها؛ لكن تخيّلْ ما الذي يمكن أن يحصل عندما تشتبك تقنية واجهات الدماغ-الآلة مع إمكانات الذكاء الاصطناعي المتقدّمة؟ ستنشأ بالتأكيد معضلات أخلاقياتية ربما ليست لنا قدرة على تخيل مدياتها في الوقت الحاضر. القدرة على قراءة العقول Mind Reading، ولو انّه ميدانٌ تطبيقي يبدو بعيداً في الوقت الحاضر لكنّه سيجلب معه متى ما تحقّق أفقًا لمستقبل بشري أورويلي Orwellianتستطيع فيه الحكومات معاقبة الناس بسبب أفكار تحسبها تلك الحكومات "خاطئة". الامر الاكثر بعثاً للقلق هو ذلك الخاص بقدرة التقنية على بلوغ طور السيطرة على العقل من بُعْد Remote Mind Control عبر التحفيز العصبي. هذا السيناريو ربما لا يزال بعيد الافق، وربما هو غير ممكن عملياً؛ لكنّ المترتبات العملية عليه ستكون ذات عواقب وجودية مرعبة. عندما نفقد إستقلاليتنا وسيطرتنا على حالاتنا العقلية الشخصية، وعلى تجاربنا الشخصية الواعية فسنكون حينئذ قد بلغنا طوراً وجودياً يستلزم إعادة تعريف ما الذي يعنيه أن تكون كائناً بشرياً. قد تكون الفوائد المجتناة من هذه التقنية كبيرة؛ لكنّ ثمناً كبيراً يجب دفعه في المقابل.

ربّما يكون الامر محض فشلٍ من جانب خيالي الفقير. أنا في الوقت الذي أبدي فيه حماستي الكبرى بشأن الفرص الطبية الواعدة للرقاقات العصبية فإنّني في الوقت ذاته سأعملُ على فكّ مغاليق القدرات الدماغية البشرية الخبيئة بطرقٍ أقلّ توغّلاً وشراسة ممّا يعدُنا به ماسك ونظراؤه. يجب علينا في كل الاحوال التفكير بتؤدة قبل أن نقبل بتشبيك عقولنا بصورة مباشرة مع خوادم (سيرفرات Servers) شركات المعلوماتية الكبرى في العالم. يجب أن نفكّر بصورة حثيثة في هذا الامكانية حتى لو كان بوسعنا فعلُها.

* أنِل سِثْ Anil Seth: مدير مركز علوم الوعي في جامعة سسكس SUSSEX البريطانية. آخر كتبه المؤلفة هو أن تكون أنت: العلم الجديد للوعي

Being You: The New Science of Consciousness

الذي صدر عام 2021.

* الموضوع نشر في صحيفة (غارديان) البريطانية بتاريخ 26 شباط(فبراير) 2024

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram