بلقيس شرارة
كانت علاقتنا بالرسام محمود علاقة متينة، منذ عودته إلى بغداد، وفي عام 1954 تعّرفت عليه من خلال الجلسات التي كانت تعقد في دور الفنانين آنذاك. واستمرت العلاقة حتى وفاته، بالرغم مما تخللها من فترات البعد عن الوطن.
ولد محمود صبري عام 1927 في بغداد، ودرس في جامعة لفبرا العلوم الاجتماعية في أواخر الأربعينيات، تطور اهتمامه بالرسم وحضر دروس الفن المسائية في إنكلترا، وعندما عاد إلى بغداد التحق بجماعة "الرواد".
وبعد مسيرته الناجحة في بنك الرافدين، كرّس حياته للرسم. يذكر رفعة منذ عودته لبغداد في نهاية عام 1952، انه التقى بجماعة SP، التي تعرفُ بجماعة "الرواد"، (كانت نقاشاتنا تتشعب فنسترسل ونستطرد، وتطول الأحاديث، وتتكرر الفكاهات، لكن الوضع كله فيه الكثير من الجدية والإخلاص. كان محمود صبري قد أقام قبل رجوعي معرضاً لرسومه، فعرض لوحات ذات مواضيع سياسية عن السجين. كان النقاش يتناول موضوع الفن. وهل يجوز اقحام مواضيع سياسية في الرسم أو في الفن أصلاً.) ص 46 ألأخيضر والقصر البلوري.
كان محمود صبري جميل الطلعة، رشيقاً، طويل القامة، يتكلم بصوت خافت، أما صوره فلم تكن تعكس مظهره الهادئ، بل تجّسد معاناة الطبقة الكادحة في العراق من خلال العامل والسجين والنساء الكادحات والعلابيات وغيرهن. ألوان داكنة وخطوط متناسقة صُهرت لتعّبر عن البيئة العراقية بقوة وأصالة. وانعكست مفاهيمه اليسارية في فنه، ولو انه لم يتبع أو يتأثر بالمدرسة الواقعية التي كانت سائدة في الاتحاد السوفيتي، لكنه اتخذ الحركة الفنية الحديثة في أوربا مرجعاً له، وتجنب بذلك السقوط في هوة التقليد للواقعية السوفيتية، وأن يجد معنى للفن ذي علاقة بالعصر الذي نعيشه. كان محمود موظفاً في بنك الرافدين، وكان الرسم هواية وليس مهنة، فلم يدرس الرسم في اكاديميات متخصصة مثل جواد سليم وفائق حسن وغيرهم من الفنانين.
كما كان محمود من الرسامين النشطين بين جماعة "الرواد"، وكان له تأثير غير مباشر على مسيرة الفن، فكتب رفعة عنه: ( ماذا كان الوضع قبل محمود صبري؟ كان الفن العراقي يدور حول مواضيع ريفية، فإذا ما خرج عن هذا النطاق فإنه يعالج صور الأشخاص "البورتريت" فيما عدا جواد. بل حتى جواد كان ريفياً في مواضيعه ولكنه يعالج مواضيع اجتماعية واقعية بمثابة المشاهد الذي يصّور الواقع كما هو، وقد يقلب هذا االواقع الى شيء رمزي متأثر بتراث محلي، أو يقف امام وضع اجتماعي ويقول هذا هو الواقع ولكني لست طرفاً في القضية... أما بعد أن تأثر جواد بمحمود، فقد تحول من مشاهد إلى ناقد ومحلل، وهو لم يكن يريد ثورة اجتماعية ولكنه اصبح بالتأكيد يريد تطويراً مهذباً سامياً... إن جواد وغيره من الفنانين قد اجتذبوا إلى قناة كان محمود صبري أول من دخلها أو من أشار إليها.) ص- 47، الأخيضر والقصر البلوري.
في عام 1956 سافرنا بالسيارة إلى أوربا بصحبة وزوجته برسيا، وقضينا وقتاً ممتعاً في جميع الأقطار التي مررنا بها وخاصة زيارتنا للنمسا. إذ كانت "فينا" عاصمة النمسا، معقلا من معاقل الفن، إن كان في العمارة أو الرسم والنحت، وذلك عندما كانت جزءا من الإمبراطورية الهنغارية. فزرنا المتاحف وشاهدنا أعمال الرسامين الذين كنا نقرأ عنهم في الكتب فقط. مثل كوستاف كلمت/ Gustav Klimt، وهو من أهم الفنانين في الحركة الإنفصالية/ Secession Movement في الرسم.
وفي طريق عودتنا، سمعنا بالراديو الهجموم على مصر، فاصبحنا أذاناً صاغية، واعلن أن السبب هو تأميم قناة السويس من قبل جمال عبد الناصر. كانت الحرب نتيجة مؤمراة من قبل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل الذي سمي "بالعدوان الثلاثي". وانقلب الحديث بيننا عن عواقب تلك الحرب ونتائجها. لكن الحرب لم تطل فقد تم الإنسحاب بعد أربعة أشهر.
كان محمود نشطاً خلال عقد الخمسينيات، وبعد أن تزوج الرسام فائق حسن الذي كانت معظم اجتماعات جماعة "الرواد" في داره، انتقلت عندئذ اجتماعتهم إما في دارنا أو في دار محمود صبري.
ترك محمود بنك الرافدين، وسافر لكي يدرس الفن في أكاديمية موسكو للرسم والنحت والعمارة وذلك من 1961- 1963، وانتقل للعيش في براغ في أواخر الستينيات وبدأ العمل بربط الفن بالعلم. إذ كان العراق آنذاك ينتقل من انقلاب إلى آخر، لذا ابتعد محمود عن الوطن، ولم نلتقي به لفترة طويلة.
ثم التقينا به عندما دعي إلى بغداد في عام 1973، للمشاركة في المؤتمر الأول لإتحاد التشكيليين العرب، حيث ألقى محاضرة بعنوان: "ملاحظة حول دور الفن في القضايا المصيرية"، بالرغم من انه لاقى حفاوة من قبل وزير الثقافة آنذاك شفيق الكمالي، إلا أنه لم يتلق عرضاً من النظام لكي يستقر في بغداد، فعاد إلى براغ. وقد خاب أمله بالفتور الذي لاقاه من قبل كوادر الحزب الشيوعي الذين لم يستوعبوا نظريته الجديدة، وانتقاله من تصوير ورسم معاناة الناس وخاصة الطبقة العاملة، إلى الخطوط اللونية والأشكال المجردة. التي عرفت بـ"نظرية الكم". ورفض مفهوم (الثقافة الجماعية، ونبذ المفاهيم الميتافيزيقة في الفن). وكتب إن نظرية الفن هي : ( شكل جديد من الفن يصّور المستوى الجديد من الواقع الموضوعي، الذي كشف عنه العلم والتكنولوجيا الحديثان: الواقع الذري. إنه فن يستبدل النظرة والفكر الغيبي بآخر علمي، أو هي فن مجتمع يطلب من الفنان خيالاً متحرراً من الغيبية والسحر... وتتجاوز الواقعية التقليدية التي تفهم الطبيعة ككيان من الأشياء الجاهزة، بينما تنظر واقعية الكم إلى الطبيعة ككيان من العمليات). وأوضح ذلك في معرضه الفني الذي أقيم في براغ عاصمة شيكوسلوفاكيا عام 1971. بعنوان "واقعية الكم"، ووصف معرضه أنه "بحث أو تجربة" ودعا الزوار إلى آلا ينظروا إليه كمعرض فني بالمعنى المألوف، وإنما تجرية تمزج بين مفهومين أساسيين لعصرنا، وهو المفهوم الذي عبّر عنه الفيلسوف أنجلز بقوله: " العالم كيان من العمليات وليس كياناً من أشياء جاهزة"، ومفهوم اينشتاين الذي يعني "ان الطاقة والكتلة شكلان من اشكال وجود المادة وانهما قابلان للتحول المتبادل".
وعندما سكن في انكلترا، كان يزورنا بصحبة ابنته ياسمين، كما ذهبنا سوية لزيارة جدارية الرسام البريطاني ستانلي سبنسر/ Stanley Spencer، في كنيسة كوكهام/Cookham، التي دفن بها الرسام، إذ كان ستانلي مشهوراً في الجداريات التي رسمها في كنيسة سندهام عن الحرب العالمية الأولى. وكان رفعة ومحمود معجبين بالجداريات التي رسمها الرسام عن الحربين العالميتين.
توفي محمود في عام 2012 وكنا من بين الحاضرين، حيث دفن في مقبرة ميدين هيد/ Maiden Head Cemetery، واقيم له حفلاً بهذه المناسبة. ومن المؤلم ان عدداً من الشخصيات المهمة التي كان لها أثر في تطوير الفن والعمارة أو الشعر والأدب في العراق، دفنوا خارج وطنهم، وكان محمود أحدهم، حيث دفن قبله الشاعر بلند الحيدري في لندن، والشاعرة لميعة عباس عمارة في سنديغو/الولايات المتحدة، ونازك الملائكة في القاهرة/ مصر.