عبد الكريم البليخ
ماذا يمكن أن نطلق على صحافيي هذه الأيام، حيث نجد أنَّ أغلبهم ـ وللأسف ـ صاروا أبواقاً، وإن اختلفت الرؤية من صحافي إلى آخر، وحسب مزاجه ومصالحه؟ وهل مهمة الصحافي العمل على إسعاد الآخرين؟
المواطن العربي لم يعد بتلك الأبواق قادراً أن يمضي حسب منافعها ورغباتها، وتارة ترتفع حناجرها لتلبي مصالحها وحاجتها، وهذا ما هو معمول به اليوم، فضلاً عن العلاقات غير السوية التي تُرسم في الخفاء، والتي صارت قادرة على أن تخيط وترقّع تلك العلاقة، وتأخذ بها حسب اتجاه الطرف الآخر الذي لم يعد يعرف في أي اتجاه يمكنه السير بعيداً عن الوقوع في حقل من الألغام. يسير في اتجاه واحد، وبخطوة مثقلة بالثقة، يمشي بسرعة بعيداً عن عين الرقيب الذي تلاحقه في كل مكان، وعن موقف يربطه مع أشخاص قد يُحقق معهم ما يريد، ما يجعله يسير سير السلحفاة ويخضع لرغباتهم، ملبياً ما يُطلب منه لقاء منفعة مادية، وحسب المزاج العام الذي يُثقل رأسه، وأردافه ويكبّل يديه، ويحسّ مع كثيرين أنّه لم يعد ينفع لشيء. ابتداء من المجاملات التي لم يعد لها مبرر، ولم يأخذ بها إلا الناس البسطاء، وانتهاء بما يلبي حاجته ورغباته، ويسعفه على الوصول إلى نهاية طريقه.
وصار أغلب الصحفيين يسلك الطريق الأعوج لجهة الوصول إلى المكان الذي ينوي، ويمارس على نفسه أقسى أنواع العذاب لإرضاء عمر أو زيد من الناس، في مسار الكتابة والرغبة، ولا يمكن لها أن تقف حجر عثرة في تحقيق الرغبة، ما دام أن الشغف موجود، فهذا ما يعني أنه سيحقق الهدف؛ لأنه نابع من الصميم.
الصحافي في هذه الأيام لم يعد يقف ملتفتاً يُمنة ويسرة، لا يعلم هل كل ما يقوله، ويعبّر عنه ويدوّنه على الورق يمكن أن يحقق غايته وطموحه؟ وهل هذا ما يبحث عنه؟ وفي حال توافر له ما أراد من هامش حرية، هل بالإمكان أن ينشر أفكاره ورؤيته بعيداً عن الرقيب؟ هل هذا ما يعني أن ما زال راضياً عن نفسه، ومقتنعاً بما يجري أمامه، وعن يمينه وشماله وخلفه؟
بالتأكيد لا. فالرضا عن مقال سبق أن كتبه، أو تحقيق رسمه، أو خاطرة سطرها، أو رأي قاله، أو حتى ربورتاج بينه، وغير ذلك من أصناف الأعمال الصحفية، قد يرسم أبعادها، ويصور من خلال المساحة المتاحة له ما يريد، ولكن هذا لا يعني أن ما يعلن عنه، ويرسمه غير مراقب بالنسبة له.
الضمير، وحده هو أداة رقابية الأهم في حياة الصحافي، أو الذي يسعى إلى نشر آرائه لمجرد النشر، وليس لقاء مكسباً مادياً، سواء قلَّ أو كثر، الأهم من كل هذا وذاك المبدأ، وهو الضمير الحي. والصحافة، برأيي الشخصي، من الضرورة الامتثال لهذا الجانب المهم من الشخصية، ولا يمكن أن يكون لها ما تريد ما دام أن ذلك بني على المكسب المادي، فالمال، وإن وجد فهو يحقق بلا شك فارق بكل شيء، لكنه لا يحقق له السعادة، او المكانة أو يدفع بالصحافي إلى أن يحقق ذاته. الصحافة مشوار طويل مشوب بالأشواك، والسعي إليها يحتاج إلى همّة ورغبة وانفعال وتسديد الرؤية نحو الهدف، والاعتزال عن الناس إلى حد ما، وبذل كل ما هو غالي ونفيس للإفراج عن البذرة الأولى، والنتيجة. فالكلمة لا يمكن لها أن تتجسد إلا بالمتابعة والاجتهاد، والحب لهذه المهنة التي، وعلى الرغم من الممارسة في كنفها، فهي بالنسبة لي، وطوال تلك السنوات ما زلنا نحبو مثل الأطفال الصغار. ما زال الطريق غير سالك، ويحتاج إلى مزيد من التعلم والحوار المباشر مع الناس، ناهيك بالأصدقاء والمعارف.
فالمال بالنسبة للصحافي ليس كل شيء، بل قد يكون عاملاً سلبياً! فالصحافي الناجح هو من يحاول أن يقدم نفسه للناس، وعلى طبق من ذهب، من خلال تحليه بالصدق مع نفسه، والأمانة والثقة، والحب لمهنته، حتى يتمكن من النجاح، والتصويب نحو الهدف.
فحب المهنة، والسعي لتحقيق الرغبة لا يمكن له أن يحققها الصحافي إلا بالمثابرة، وبذل الغالي والنفيس لتجاوز كثير من المعوقات التي تحول دون تجسيد الهدف.
الصحافي الحقيقي يظل أنموذج مختلفاً عن الناس، برأي في حال حافظ على مقومات واشتراطات المهنة واحترم أسسها، والتزم بأعرافها. فالصدق هو تاج الصحافي الناجح الذي يبحث عن الحلول. حب المهنة والانغماس فيها، والامتثال لكل صورة من صورها، والتعامل مع الآخرين بأدب ورفعة وحماسة، وتقديره للآخرين، لا أن يتعامل مع الناس بفوقية، وأستذة وبنفس ضيّق وكأنه أستاذ جامعي يقف أمام طلابه وعليهم تقديم الطاعة له، أو أمام معلم صف حاملاً بيده عصاه يهُشُّ بها على تلاميذه، ويتوعدهم في النيل منهم في كل لحظة.
الصحافي، روح وعليه أن يكون أكثر تواضعاً وحكيماً بتعامله مع الآخرين، رحيماً بهم يحترمهم ويثني على نجاحهم ويشيد بهم، ويفاخر بهم ويعتز بهم لا أن يقلل من شأنهم ويطعن بهم، ويحتقرهم ويؤنبهم محاولاً إيذاءهم بدلاً من العمل على الوقوف إلى جانبهم، والسعي جاداً ليخفّف عنهم عبء الحياة، وإن دفع به ذلك إلى دخول السجن، وعوقب من أجل رسالته من حاكم ظالم، أو قاضي لا يعرف للعدل والانصاف وزناً، ويظل العمل الصحافي ما أعزها وأنبلها من رسالة تخدم عامة الناس، وتخفف عنهم معاناتهم، أو بإيجاد الحلول وتقديمها لأصحاب الشأن.
الصحافة رسالة.. وعلينا أن نقف باحترام أمام كل من يبذل الجهد والوقت والمال في سبيل إسعاد الآخرين، ولنكن من بينهم!