ستار كاووش
كل مدينة تصنع حكايتها بنفسها، وكل مكان جميل يعكس نوعاً من الرضا على بناياته وشوارعه وكل زواياه. ومدينتي الصغيرة دراختن التي تغفو شمال هولندا، حيث أعيش وأرسم، تحاول أيضاً أن تقدم لسكانها جانباً من المتعة الممزوجة بالجمال.
وقد خبرتُ ذلك في مناسبات كثيرة، منها معرض الضوء الذي أُقيمَ مؤخراً في الهواء الطلق، على أرصفة المدينة وشوارعها وساحاتها وبناياتها العالية وحتى بيوتها الصغيرة المبنية بالحجر الأحمر. سرتُ وسط جموع الناس الذين بدأوا يتقاطرون أسراباً لرؤية المعرض، نقطع جادات المدينة خلف بعضنا ونَتَنَقَّلُ حسب تسلسل الأعمال بين الشوارع والساحات والبنايات محاولين إكتشاف الأضواء الملونة التي صنعتها مدينتنا بعد إن أناطت بذلك لفريق عمل متكامل للقيام لهذه الاعمال التي تُثير البهجة والمفرح، والتي ستتكرر كل سنة. لا شيء يخلو من الضوء الذي إفترش الأرصفة والحيطان والبيوت والزوايا الصغيرة. ومع حلول المساء بدأت الاعمال المضيئة تتضح شيئاً فشيئاً، وبدأ الضوء يغسل وجه المدينة. وما أن إختفى ضوء النهار تماماً، حتى ظهرت بدلاً عنه هذه الأشكال الاحتفالية الملونة.
بداية الإنطلاقة في هذه الجولة كانت مع زهور التولب التي إنتصبتْ بمحاذاة الشارع الرئيسي المليء بالمقاهي، عمل كبير بإرتفاع خمسة أمتار تقريباً، تظهر فيه مفردة هولندية بإمتياز، وهي باقة عملاقة من زهور التولب الملونة التي تتغير كل بضع لحظات ألوانها الضوئية من الأحمر الى الأصفر، ومن البنفسجي الى الأخضر… وهكذا، لتمنح المكان سحراً يلائم هذا البلد الذي ينتج في السنة إثني عشر مليار زهرة تقريباً. تركتُ التولب مضيئاً خلفي ومضيتُ لإكمال الجولة، وهناك على جدار أحد البيوت القديمة انعكست إضاءة لمقطع من قصيدة للشاعر الهولندي جولس ديلدَر يقول فيه (رائع إن كان بإمكانك الرؤية حتى نهاية الشارع، لكن أجمل من ذلك حين تستطيع أن تلقي نظرة جانبية على بعض الزوايا المهملة) وهذا الشاعر يعتبر أحد الرموز الثقافية، حيث يطلق عليه الهولنديون لقب (عمدة مدينة روتردام ليلاً) بسبب تسكعه طوال الليل بين شوارع المدينة وحاناتها، حيث تسمعه يلقي قصيدة هنا، ويغني هناك، ويحتفل مع مجموعة من الفنانين في مكان ثالث. مضيتُ قليلاً في طرق المدينة، فبانَ لي من بعيد وجه بعينين حمراوين تتحركان يميناً وشمالاً، وكإنه يراقب المارة ويرشدهم الى الطريق الصحيح الذي عليهم أن يسلكوه للوصول الى العمل الضوئي التالي. وانتبهتُ الى ان مصدر هذا الوجه المتحرك، هو الضوء الذي انبثقَ من البناية المقابلة ليسقط في النهاية بشكل طريف على هذا الجدار. وسط الساحة الرئيسية للمدينة وعلى بنايتين مختلفتين ظهر وجهان مبتسمان كإنهما يتحاوران بالعيون وسط ليل المدينة. أكملتُ طريقي لتظهر لي بعض العروض التي أخذتْ بعض الصالات مكاناً لها، حيث إنتشرت بعض الأعمال الفنية التي يمثل الضوء قوامها الأول، وبرزت فيها اشكال لأسماك وبيوت وكائنات غريبة. قرب مسرح المدينة إنتصبَ عمل بدرجات الأزرق كإنه مركبة فضائية جاءت من مكان مجهول، وقفتُ قليلاً أتأمل هذا العمل الذي يشبه خيمة صغيرة للسيرك، ودخلت الى بناية المسرح، وهناك ظهرت الكثير من الأشكال التجريدية والتصاميم المختلفة التي ملأتْ الصالات بالبهجة والمتعة.
في النهاية كان عليَّ أن أُنهي جولتي في متحف المدينة الذي فتح أبوابه ليلاً بهذه المناسبة، والمفاجئة كانت حين خرجتُ نحو الباحة الخلفية للمتحف بإتجاه الجانب الآخر من المدينة، فقد إمتلأت أرضية الحديقة الخلفية ببقع دائرية صغيرة مضيئة بدرجات اللون الأزرق والأخضر والبنفسجي، وعليك إن تقفز من واحدة الى أخرى كي تصل الى الشارع. أكلمتُ طريقي بين الكثير من العروض المضيئة، مروراً ببلدية المدينة التي أخذت كل واجهتها أشكالاً هندسية ملونة وبقع ضوء تعيدنا الى مدرسة دي ستايل. كان عليّ أن أُكمل طريقي عائداً بعد أن تشبعت بضوء المدينة التي تحولت الى حفلة طريفة. سحبت خطواتي نحو البيت، ثم إلتفتُ نحو الأشكال التي أخذت تتباعد خلفي، فيما الناس أخذوا يدخلون المقاهي والحانات بعد هذه الجولة، فغيرتُ طريقي بإتجاه مقهى صغيرة وأنا أفكر بالضوء الذي يمكنه أن يصنع مثل هذه البهجة وهذا التناغم الذي جمع الناس وجعلهم سعداء في هذا المساء البارد.