اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > في فلسفة التجنيس الأدبي

في فلسفة التجنيس الأدبي

نشر في: 5 مايو, 2024: 11:35 م

د. نادية هناوي

الأجناس الادبية نتاج من النتاجات الثقافية، لها حاضنة فكرية تنتمي إليها كما لها قاعدة أدبية ذات أعراف وتقاليد.

ولما كانت الحواضن والقواعد قديمة وليست أوربية لذا يصبح طبيعيا وضروريا أن يسعى الناقد الغربي؛ أما إلى إثبات أن التجنيس نظريا وإجرائيا هو تأسيس إغريقي أرسطي أو يسعى إلى دحض فكرة التجنيس أصلا بالقول إن لا نقاء في الرواية لأن لا أصول سابقة لها وأنها مجموعة عناصر بلا سنن أو أعراف تأسست عليها في حدود القرن الثامن عشر الميلادي وما من تراكمات صنعها تاريخ طويل من الشعر بأجناسه الغنائي والملحمي والدرامي.

إن المفهوم الشامل للجنس يأتي من ضرورة ظهوره كمؤسسة تواضع عليها الأدباء بشكل حر أي متحرر من المقاصد البنائية والوظيفية، ولا يمكن لأية مؤسسة أدبية أن تكون ذات أعراف ومواضعات على مستويي الكلام والكتابة من دون تاريخ طويل يصل إلى أبعد نقطة فونوغرافية في المجال الذي تختص به هذه المؤسسة.

ولقد تشكلت القاعدة التجنيسية عبر الحضارات القديمة منها كالسومرية والفرعونية والإغريقية والصينية، ولحقها التطوير في ظل العصور الحديثة. ومن يدرس الأجناس الأدبية عليه أن يفي بحق هذا البعد التاريخي، أما من ينكر الأجناس والتجنيس ويرى أن الأوان حان لاختفائها، فانه بالتأكيد يكترث بحداثة الثقافة الغربية التي ليس لها في تأسيس الأجناس الأدبية عمق تاريخي. ولعل هذا هو ما دعا بعض النقاد والمنظرين الفرنسيين إلى تبني منظور جوليا كريسطيفا السيموطيقي. وبغيتهم(صياغة نظرية شمولية للنص حيث يأخذ هذا المفهوم معنى أكثر خصوصية ولا يمكن تطبيقه على كل متتالية منظمة من الجمل) وهذه الشمولية التي تبحث عنها كريسطيفا هي نفسها التي عنها بحث باختين وهو يعمم فرضياته حول حوارية النصوص على نظرية الأجناس، مفترضا أن العلاقات بين خطاب وآخر هي علاقات حوارية تشابه العلاقات بين جنس وآخر أي أنها تناصية ما بين ملفوظات عبر لسانية تنتسب إلى الخطاب وليست سننا ومواضعات لغوية مؤسسة على سياقات تواصلية عامة. وتؤيده كريسطيفا ويوافقه الرأي تودوروف أيضا من منطلق أن الأسلوب هو الرجلين، وبذلك يضيع الأصل ويصادر التاريخ وتختفي حقيقة القاعدة المؤسسة.

ولا خلاف في أن لا تاريخ يمكن تحديده للقائل الأول في أي موضوع كلامي لأن الكلام قيل بصورة أو بأخرى. ومن المستحيل وجود خطاب لا يلتقي أو يتعالق مع خطاب سابق تكلم به القائل الأول غير أن الأجناس الأدبية ليست خطابات أو أقوالا شفوية أو نصوصا كتابية كي نتعامل معها على وفق نظرية التناص وإنما هي تأسيس تاريخي صنعته الضرورة ورسخته الحرية. وليس للثقافة الأوربية في ذلك كله أي نصيب، لأن لا امتداد تاريخيا لها، وبسبب ذلك سعى ميكافيلي لوضع أسطورة حول أوروبا حتى قيل إن الخرافة الأولى ابتدعت في انجلترا خلال القرن السابع عشر و(شارك في الدعوة لأسطورة ميكافيلي الساسة والفلاسفة وكذلك كبار شعراء انكلترا).

وطبيعي لمن لا امتداد بعيدا له في الأدب أن يقول إن النصوص متداخلة وأن الأجناس مختفية بالحوارية حتى إذا وُجد مصنَف تراثي يعود إلى العصور الوسطى، قيل إن لا ضرورة للمفاضلة؛ أما لكون هذا المصنف لمؤلف مجهول أو لأن المؤلف يحتمل انه أفلاطوني أو أرسطي!!. وعلى الرغم من ذلك، فان الضرورة تبقى حاصلة ومؤكدة، لأن أفلاطون وأرسطو وأصحاب المدرسة الأفلاطونية الجديدة توافقوا على وجود أصل أول لكل شيء. ورفض كاسيرر - كغيره من نقاد الغرب - هذه النظرية أي نظرية وجود أصل مطلق كما فنّد تفسير هوميروس لفقرة مشهورة في الإلياذة وهو أن هناك سلسلة ذهبية تربط بين أجزاء العالم وفيها الأشياء أيا كانت روحية ومادية ومن آدميين ومن كائنات عضوية مرتبطة بعضها ببعض في سلسلة ذهبية وفيها نوعان مختلفان من المراتب: مراتب الوجود ومراتب القيم. ومما جاء في تعليله لهذا الرفض ما يأتي:

إن فكرة المطلق لا تعني عملية التطور بالمعنى الحديث لأنها عملية تدهور، وأن ليس ثمة أي اختلاف أو تعارض وإنما هو تناظر وتوافق(إذ تعتمد درجات القيمة على درجات الوجود فما هو في مرتبة دانية في سلم الوجود يكون في مرتبة دانية أيضا في السلم الأخلاقي)

ولقد سادت فكرة رفض الأصل أو المطلق أي لا أصل هو أسمى ولا أعلى هو مطلق منذ عصر النهضة بحجة العلم والعقل حتى بزغت روح جديدة في تاريخ العصر الحديث تريد تأكيد أن هناك فجوات في نظام المراتب وبالشكل الذي يثبت أن للعقل الأوروبي تفوقا. وبالفعل حلَّ النظام الفلكي لكوبرنيك محل النظام الكوني وسادت الأفكار الفيزياوية حيث لا اختلاف من الناحية الروحية بين عالم أعلى سامٍ وعالم أدنى واقعي. وعلى الرغم من سيادة هذه الأفكار فإن الأنظمة -مثل نظام الكون ونظام الحياة ونظام الأجناس الأدبية- ما زال القول فيها غير محسوم عند مفكري الغرب إلى اليوم. وإذ حاول قانون تصارع الأضداد تفسير نظام الكون وحاول قانون التطور تفسير نظام الحياة، فان قانون التناص أراد تفسير نظام الأجناس ولكن المحصلة واحدة وهي أن هناك مطلقا في كل هذه الأنظمة ومن ثم يكون بالضرورة وجود صانع أول ماهر، كان قد أسس القاعدة التي عليها قام نظام الأنظمة كلها.

وما نريد تأكيده هنا، هو أن هناك أصلا لا يغيب بالحوارية المباشرة أو المونولوجية، بل هو مؤكد بفنية الشعر أو السرد وبدئية من ساهم في أن يسنَّ التقاليد ويصنع القوالب ويعطيها حدودها النوعية. وليس أصل الجنس سوى نظامه الذي اختمر كضرورة أتاحتها حرية ذاك الذي ابتدع وجرّب ووضع وسنّ ونظّم ومثّل على جذر هو قاعدة، وعليها استقرت الأجناس كالملحمة أو القصيدة الغنائية أو الدراما. واستمرت أشكال الأدب كالأسطورة والحكاية والمجادلة /المناظرة والباروديا جزءا من هذا التأسيس ولم يكن لأي واحد منها أن يصبح مؤسسة. وبهذا الشكل صارت للأدب أجناس، وحوى كل واحد منها أشكالا وأنواعا فنية مختلفة. وصار مألوفا أن بعضا منها يكون مؤسِسا لغيره وبعضها الآخر صار هو لوحده مؤسسة تبعا لطاقة الشكل أو النوع وقدرته على الصمود تاريخيا والاختلاف عن غيره فنيا.

وهذه الضرورة التي منبعها الحرية وبالعكس أي الحرية التي منبعها الضرورة، هي بمثابة قانون، لا يعرفه التناص. إذ ليس بين خطابين متناصين لسانيا أي تنازع أو تنافس أو تصارع وإنما هي أحادية وأسلبة أو تعدد أصوات وتهجين، على عكس الجنس الأدبي الذي يجمع في داخله المتنازعات(نوع أو شكل أو جنس) ضعفا أو أحادية أو سائلية. وتكون الغلبة للأقوى انغلاقا في إطاره وأكثر ثبوتا في قالبه. وبحسب الحدود المعلومة تاريخيا، يكون الجنس العابر وحده القادر على الضم والصهر والمحو، فهو الشامل في انغلاقه والمنغلق في شموليته. فتندرج فيه من ثم مختلف الأشكال الأدبية والتقانات الفنية والأنواع لكنها كلها تنطبع بطابع هذا الجنس العابر نظرا لقوة قالبه ووضوح أبعاده. وإذا كان تهجين النص يعني انتساب ملفوظ بخصائصه النحوية والإنشائية إلى متكلم فرد فيكون هناك خلط وامتزاج على مستوى الدلالة، فان تهجين الجنس بشكل أو نوع أو نمط يعني العبور الاجناسي بلا خلط ولا امتزاج، بل بالعكس هناك قوة، هي بالعموم من صفات أي جنس أدبي وهي بالخصوص من صفات الجنس العابر.

وتأتي الضرورة - أي في أن يكون الجنس مؤسسة - من حرية تشكله الإبداعي كأصل ينبغي أن نحدد قاعدته التي أُسس عليها، فلا تركيب على تركيب ولا صوت على صوت يتعزز إلا بوجود قالب ذي مقاسات معلومة. وهذه الحرية هي الهادية إلى الضرورة التاريخية في أن يبزغ الجنس في أوانه الذي يلائمه فنميزه عن غيره من الأشكال والأنواع. وبالحرية والضرورة تنتفي فرضية القائلين بأن أي ملفوظين مهما كانت نوعيتهما حالما يوضعان على المحور الدلالي نفسه فأنهما يدخلان في علاقة حوارية. لسبب بسيط هو أن الجنس ليس نصا كي نتعامل معه تعاملا لفظيا إنما الجنس قالب علامته هي حدوده. وهذه الحدود هي التي تحصر غيرها ومعها تفرض لنفسها مسافات معينة على عكس النص الذي تمثله كلمات يمكن حصرها بالأقواس كعلامتي اقتباس. فالحد غير حر في رسوخه بينما الكلمة حرة في مواضعاتها، ومن هنا يُعرف الأدب من حدود قوالبه في حين لا تُعرف حدية الكلمة إلا في السياقات التي ترد فيها.

وعلى وفق هذه الضرورة وتلك الحرية وضع أرسطو نظرية عامة في الأدب وطور من خلالها فهمه للأجناس. واستمرت نظريته إلى اليوم وعليها انبنت عشرات الطروحات في الأجناس من قبيل القول بالأجناس البدائية وسجلات الكلام والشعرية والسيميوطيقيا والأشكال الرمزية والتعبيرية. وما من واحدة من هذه الطروحات خالفت نظرية أرسطو لان ميكانيزما اللسان ومشكلات الكتابة ما تزال تحتاج معرفة ناجزة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram