شعر: أديب كمال الدين
ربّما كنّا محظوظين أنّنا لم نعبر الجسرَ معاً
فالجسرُ قد انهار
وتساقطَ العابرون فوقه إلى الماء
جميعاً
ولم ينجُ إلّا أولئك الذين يعرفون كلمةَ السّرّ.
*
كانتْ كلمةُ السّرِّ مَزيجاً من الحظّ
وجمْعِ حروفٍ عجيبة،
وكانتْ أرقاماً لا معنى لها
ترسمُ صورةَ حيوانٍ برأسين.
*
لم تكنْ قصيدةً بالطبعِ أو عنوانَ قصيدة
ولم تكنْ كلمةَ شوقٍ أو حُبٍّ أبداً.
كانتْ تخفي سينَ السّمِّ لا سين السّلام
وكافَ الكذبِ لا كاف الكمال
وهاءَ الهذيانِ لا هاء الذي لا إلهَ إلّا هو.
هكذا كانتْ - وا أسفاه - كلمةُ السّرّ.
*
كلمة السّرِّ التي لم يعرفها ملوكُ النّهرين
فَقُتِلوا - وا حسرتاه - الواحد بعدَ الآخر.
ولم يعرفها زعيمُ الفقراء
فلم تُرَ له شاهدةٌ أو قبر.
وكانَ على وشكِ أن يفكَّ طلاسمها
طاغيةُ العصر
إذ عرفَ مِن أحرفِها قافَ القتل
وراءَ الرعب
وحاءَ حروبٍ لا أوّل لها ولا آخر.
لكنْ أخطأَ في الرقمِ الثالثِ بعد الألفين
فالتفَّ على رقبته حبلٌ رثّ.
*
قرأتُ ما أعرفهُ من كلمةِ السّرِّ على شبابي
ففاضَ بي الفرات
حتّى سكرتُ من جُنونه ومُجُونه،
وكادتْ دجلة أن تلقي بي من فوقِ جسرِها
أو تذرّ رمادي كأيّ صوفيّ أو درويشٍ أو حلّاجٍ.
وقرأتُ ما أعرفهُ من كلمةِ السّرِّ على طفولتي
فضاعتْ منّي دراهمُ العيدِ السّبعة
ثُمَّ قرأتُه على جسدِ المرأة
فعلّمني أن أطيرَ في مفتتحِ الحرف
وفي خاتمةِ النُّقطة.
وقرأتُه على الريحِ فسلّمتني
إلى البحرِ الذي سلّمني إلى الغيمة.
وقرأتُه على الأصدقاءِ فبكوا أوّلاً
ثُمَّ ضحكوا ثانياً
ثُمَّ رقصوا رقصةَ الوحوش.
وقرأتُه أخيراً على الليل
فامتدَّ حتّى أكلَ الفجرَ عندَ الفطور.
*
يا لها مِن محنة!
مَن كتبَ كلمةَ السّرِّ هذه؟
مَن الذي اختارها؟
أهو الليلُ أم الفجر؟
أهو الإنسانُ أم الشّيطان؟
*
لم أسألْ عن كلمةِ سرِّك
كنتُ مشغولاً بسرِّكِ كلّه،
مَذهولاً بدهاليزه
وخرائطه التي تتبدّلُ أبدَ الدهر
كما تبدّلُ الأفعى ثوبَها.
ولم أعرفْ أنّ السّرَّ يملكُ باباً
لا يُفْتَحُ بالمفتاحِ ولا بالسِّحْرِ ولا بالشِّعْرِ ولا...
بل بكلمةِ سرٍّ فقط.
*
يا لها مِن محنة!
قلبي لا يعرفُ كلمةَ السّرّ
إلّا التي تخفي الحاءَ والباء
وتظهرُ الحاءَ والباءَ أيضاً.
ومثل هذه الكلمة: المعجزة
لا يعرفها إلّا الذي اكتوى حتّى صارَ رماداً
وطيّرتهُ الريحُ حتّى صارَ ذكرى.
*
أن أعثرَ في زمنِ العولمة
على مِثْلِ قلبي،
أعني على القلبِ الذي يرسمُ كلمةَ السّرّ
بالحاءِ والباءِ نُطْقاً ونَبْضاً
كمِثْلِ الذي يعثرُ على البحرِ في الصّحراء
أو على الماءِ في فُوَّهةِ البُركان.
*
هكذا ضاعتْ كلمةُ السّرِّ منّي
فعوّضتُها بالطيرانِ الكثيفِ في غابةِ الشِّعْر
كلّ ليلةٍ حتّى مطلعِ الفجر.
وحينَ أتعبُ من الطيران
أذهبُ إلى حانةِ النُّقطةِ راقصاً كالدراويش
حيث كلّ شيء لحرفي مُباح.