طالب عبد العزيز
خذ الإبريق، واملأهُ ماءً من الشيخ أنس- ولم تقل من النهر الذي قرب مزار الشيخ أنس! لكنَّ الشمس لم تعدْ يا أمّاه، وحشٌّ أخضرُ جرّها من جدائلها، فذهبت ونامت، والطريق اليه لم تعد كما في النَّهار، وماذا لو صادفني حمادوه ابو اللّوُكْ؟ أخشى أنْ يسلبني دشداشتي الوحيدة، وماذا لو فقأ عيني بمحراث تنوّر أمه العوراء، لا عليك، هو نائم في بطن بطيخة الآن، دخلها وأغلقها على نفسه، ولن يخرج منها إلا في ضحى الغد! أووف، من يوثق قدمي على التراب، فلا ترتجف.
يحملُ الولدُ الغِرُّ إبريق النحاس، ويهبط كاع ابو حيمد، كانت الطريق الى هناك جدَّ طويلة، وشجرة الآس العالية لا يعرف من ينام عندها في ساعة المغيب هذه، والماء يشخبُ من سدّة الطين على النهر، وهناك قطة وضعت صغارها في ثقب من الارض، قريب من السور، الذي يلفُّ فحل النخل، حيث مزار الشيخ، والشموع التي توقدها النسوة في خميسات الاسابيع لا يتطفل عليها أحدٌ من أولاد القرية، لذا،هي موقدةً طوال الليل، لكننا لا نراها في النهار، واليدُ الخفيةُ، حاملة عيدان الثقاب لا نصادفها أبداً. أمّا السعفُ الذي تنخسف قلوبنا بملامسته فهو ما نجتهدُ في تفاديه.
لا أحدَ في القرية بطوائفها المختلفة سألَ السؤال التقليدي: من هو الشيخ أنس؟ ولماذا يستحمُّ المحمومون بماء النهر عند سور الطين حوله؟ لكنْ، ليس ثمة قبر، ولا قطعة قمماش خضراء، ولا مصلى ولا نادبات!! ترى، من يكون هذا؟ يبدو أنَّ بعض الاسئلة لا معنى لها، كذلك ستكون الاجوبة، فالماء المحمول منه يشفي مرضى الملاريا، ومعهم الذين لا يملكون المال لزيارة توما هندو، طبيب الامراض المتوطنة، الاشهر في المدينة، الذي يداوي مرضاه بحبوب الكينينيا المُرّة، هم يكتفون بإبريق الماء منه، ويشفون، أو تأخذ الجرثومة اللعينة دورتها في الجسد هذا مغادرة الى غيره، وهكذا، سيظلُّ إبريق النحاس حاجةً هؤلاء الى الابد.
في القرية الصغيرة حيث ولدت ثلاث مقابر، مقبرتان للصغار وواحدة للفقراء الكبار، الذين لا يقوى ذووهم على تأمين أجرة النقل والدفن في الزبير والنجف، موقنين بانَّ اللحم والعظام الصغيرة والفقيرة الواهنة تلك ستتحول الى تراب يلحق ببساتينهم، وستمتصُّ عروق النخل ما يتحلل منهم، في دورة الطبيعة. المقابر الثلاث لم تعد قائمة الان، لقد حوصرت مثلما حوصرنا نحن سكان القرية، بالغرباء الذين سكنوا حولنا، وقرضت حيطان الاسمنت تراب المقابر ذاك، وشيئاً فشيئاً حلت غرف النوم والمطابخ ودور الضيوف محلَّ قبور الاطفال والفقراء، ولم تعد الطرق اليها مخيفةً، أما قبة الشيخ محمد ابي الجوزي فهي الأخرى زاحمتها الطريق الى مركز المدينة، ولأنَّ الحكومة خجلت من فعلتها بهدم قبته فقد استبدلتها بواحدة من الفايبركلاس، كذلك اختفى نهر الشيخ انس، ولم يعد أحدٌ يحمل الماء من نهره، الذي طمر واختفى.
لا، أبداً ليست المقبرة نهاية في التراب، هناك نقص في المروءة، بالتعامل معها بوصفها تراباً فائضاً عن الحاجة، أو مآل حقير للعظام. لستُ مؤمناً بحديث الجنة والنار والبعث الجديد، لكنني، أرى نسقاً انسانياً يجب مراعاته، في المكان الذي ينتهي اليه الجسد الآدمي، وهناك حرمة وقدسية يجب أنْ تؤخذ بنظر الاعتبار. قد لا يشفي ابريق الماء المأخوذ من نهر الشيخ أنس، وهو قطعاً لا يشفي، لكنْ أجدني ذائباً، مغموراً بنور السردية الجميلة هذه، منتمياً حدَّ الموت الى القطعة الصغيرة من الارض، وسأظل أبحث عمن يستعيد خطواتي، متلفتاً وخائفاً من (حمادوه ابو اللوك) قبل وبعد مغادرتي عتبة بيتنا الى سور الطين، حيث ماتزال الشموع موقدةً، لم يتجرأ أحدٌ على اطفائها.