طالب عبد العزيز
مع التقدم بالعمر يفقد الانسانُ بدئيته، فطرته، تكبر وتتضخم الاشياء التي حوله، البيت والشارع والسوق والمستوصف ومركز الشرطة وغيرها الكثير تنتفخ فيه، ثم تتحول الى وحش، قد لا نشعر معه بالطمأنينة. قطعاً، كانت الارض أصغر بكثير من هذه، يوم كنتُ أذهب للمدرسة على دراجتي الهوائية،
والطريق أقل رهقاً في السير عليها حتى النهايات، النهايات أيضاً كانت أقرب من اليوم، فقد كنتُ أصل البيت قبل أن تكمل أمي إعداد وجبة الظهر، وقبل أنْ يخلع ابي يشماغه مهموما، عائداً من البستان، كذلك كان الوقت، فأنا أستحم وارتدي ثيابي وأتناول فطوري بدقائق قليلة جداً، وفرحاً مبتهجاً أكتبُ الواجب البيتي، لكنْ، ومع فراغي منه يكون الليل كثيراً بانتظاري على الوسادة الصغيرة.
لا أعرف من هذا الذي أدخل يده وعبث بآلة الزمن؟ ومن الذي جعل الأحذية والثياب ضيقةً الى هذا الحد، ولماذا استعجل صبّاغ الشعر برأسي فجعله أبيض هكذا، ومن أي ضباب تجمع كل هذا الضجر والقنوط، وأيَّ بغضاء أحملها على النظارة التي تحفر الانف، من هذا الذي أخذ بالصور والنساء وكؤوس النبيذ بعيداً؟ وكيف تناثرت الكتبُ في الغرفة، من هذا الذي ابدل الحقيبة المدرسية، ذات الكتب السبعة بهذا العدد الهائل من الورق والاغلفة، الذي تزدحم به حيطان الغرفة. وهل حقأً كنتُ بحاجة الى هذه المعارف التي أنوء بثقلها الآن؟ هناك، من أخطأ بحساب الزمن والمكان وحاجات الجسد بكل يقين. يقول كمال الرّياحي في تقديمه لكتاب البرتو منغويل(جنتلمان المكتبات) حين وقف بانتظاره في مطار تونس بأنه لاقى صعوبة في الاتصال به "فمنغويل لا يملك هاتفاً ذكياً ولا غبياً طوال حياته".
في كتب الأدب كنا لا نعرفُ الشاعر إلا بقصيدة واحدة هي التي في كتاب النصوص، فكل ما كنا نعرفه عن نجيب محفوظ هو المقطع الصغير المأخوذ عن زيطة في رواية زقاق المدق، ومثل ذلك كانت قطعة المنفلوطي المستلة من كتابه النظرات، كذلك كان بدر شاكر السياب في انشودة المطر، وميخائيل نعيمة في النهر المتجمد، والرصافي في الارملة المرضعة، وابن زريق في واحدته، التي على دجلة. ترى لماذا راكم العارفون بهم علينا بكل ما لديهم عنهم، وهل كنا بحاجة الى كل ما كتبوا وخطت أقلامُهم، نحن أضعف من أنْ يلقى علينا بهذه الأطنان من المعارف والافكار، ففكرة صغيرة تكفي لعدم التضحية بالطفولة.
يقول الامازيغ بأنهم لم يعرفوا الشيطان قبل دخول العرب المسلمين الى شمال افريقية، حتى أنَّ أحدهم صاح لماذا جئتم به الينا من الصحراء؟ وقبل دخول المهاجر الاوربي أمريكا كان الهنود الحمر مطمئنين على سلامة القمر، ولم يكن ستاندال من كتّاب منغويل المقربين، مع أنه يعترف به ككاتب كبير.. ولا أعرف أين قرأت هذه " الى غرفة بالطابق الثاني أخذتُ جهاز الغرامفون، كان النحيب كافياً لتحترق غابة الصنوبر" وأنني كتبتُ في دفتر مذكراتي:" صباح كلِّ يوم عيد كان أبي يجلس بانتظار الاطفال الذين يستعجلون السلام عليه(معايدته) وقد رأيته وهو يملأ(لاطيته)-العرقجين، أو القحفية عند البعض- بالقطع المعدنية الصغيرة من فئة الآنة(4 فلوس) والعشرة فلوس والدرهم ويعطي الاطفال، كلاً بحسب عمره، ولأنه كانَ فلاحاً بسيطاً، ولا يملك الكثير، فقد كانت أمّي بطبيعتها كربة بيت أشد المعترضين عليه، لكنه كان يجيبها بأنَّ يدَ الطفل تفرحُ بالعطاء البسيط، وقد تفيضُ بالذهب لصغرها، فما الضير في أن أضع فيها هذه القطع المعدنية البائسة.؟ أعتقد بأن سعاد حسني انتحرت بسبب عقدة الطفولة الازلية التي لم تفارقها.