ستار كاووش
ليس هناك حدوداً للفن وابتكار الأشكال الجميلة، فالابداع يظهر في كل مكان وزمان ويعكس ذوق الانسان وطريقة تعامله مع الحياة، ويمكن أن نراه من خلال طابع بريدي صغير أو بيت قديم وسط قرية، أو نلاحظه بهيئة طاولة خشبية بانت عليها بصمات الزمن، أو حتى في إلتماعة طبق من البورسلين.
عموماً، كل شيء يمكن أن يتحول الى فن وجمال لو أضفنا له لمسة من الجاذبية ووضعناه في مكانه وسياقه الصحيح. الفن هو مرآة الشعوب وإنعكاس لروح الانسان، وهو قد سبق اللغة والديانات والتدوين، انه نوع من السحر الذي غطى حياة الانسان بكل تقلباتها وتفاصيلها. ومثال على ذلك هي قوالب الكعك بأشكالها الفريدة وحجومها المختلفة وأغراضها المتعددة، والتي إستخدامها الانسان وعكستْ ثقافته وتقاليده وعاداته اليومية على إمتداد مئات السنوات.
فكرت بهذا الموضوع حين اشتريتُ هذا الأسبوع قالباً قديماً لصناعة الكعك، قالب خشبي بطول ثلاثين سنتمتراً ومحفور باليد. تأملته وفكرتُ كيف كان الناس في أوقات بعيدة يرصون فيه العجين، لتظهر لهم كعكة تحمل شكلاً معكوساً لما هو محفور على القالب، كإنه عمل فني مدهش. وبسبب جمال وندرة وفرادة الكثير هذه القوالب الخشبية فقد أخذت طريقها الى المتاحف لأنها جميلة وقديمة وتعطينا صورة أكيدة لأشكال عمرها مئات السنوات. بحثتُ عن القوالب النادرة التي تحتويها المتاحف في هولندا، وعرفتُ ان أكبر مجموعة يضمها متحف فريسلاند، فزرت المتحف واطلعتُ على أشكال ساحرة وفيها الكثير من الجاذبية والقوة والتأثير. قوالب الكعك هذه تتراوح حجومها بين عشرين سنتمتراً ومترين. ورغم قدمها فهي تبدو كإنها قد صُنعت هذه الأيام.
كانت الشعوب البدائية في أوروبا تقدم الكثير من القرابين لما يؤمنون به من آلهة، وكان هذا يتطلب التضحية بكائنات حية كالبشر والحيوانات. ومع مرور الوقت تغير نوع الأضاحي وصارت لا تشمل البشر والحيوانات، بل لجؤوا الى أنواعٍ من الخبز الذي صار بديلاً للذبيحة، ثم تطور الأمر فتحول الخبز الى أنواع من الكعك الذي صار يـُقَدَّم كقرابين بعد أن يُصنع بأشكال معينة، حيث كانوا يعتقدون بأنه يمنح الناس فوائد تأتي من قوى إلهية، وهكذا مضى الناس يحفرون ألواح الخشب لجعلها قوالباً لصنع الكعك.
ومع دخول المسيحية للأراضي المنخفضة تغيرت أشكال ألواح الكعك المرتبطة بالقرابين الوثنية، وصارت تمثل أشكالاً لبعض القديسين، حيث تم تجهيز الكثير من هذا الخبز والكعك في الأديرة. وهكذا مع مرور الوقت بدأت التغييرات بالظهور شيئاً فشيئاً، وصارت الاشكال تتغير وتتنوع وتأخذ اتجاهات وانماط مختلفة. والمدهش في هذه القوالب الجميلة هو انها تنتج عملاً فنياً غرافيكياً متكاملاً حيث تظهر الأشكال معكوسة كما في فن الغرافيك الذي نعرفه اليوم، والفرق الوحيد هو ان هذه الطبعات مصنوعة من الكعك. كان صانعي قوالب الكعلك جوالين بين القرى لبيع منتوجاتهم التي صنعوها بأيديهم بطرق حفر مذهلة، وكانت تظهر بين القوالب الكثير من الاختلافات التي تشير الى هذه القرية وتلك البلدة، او حتى توثق مناسبات أو أحداث معينة.
وبما ان الكعك يجب أن يكون بحجوم وأوزان محددة وثابتة لذا صار من الطبيعي أن تقطع القوالب بأشكال متطابقة من حيث الوزن، حتى لو كانت اشكالها مختلفة. ولغرض بقائها واستعمالها لسنوات طويلة، فقد لجأ صانوا القوالب الى انواع جيدة ومناسبة من الخشب، مثل خشب الجوز وخشب الساج، وكانوا يمنعون استخدام خشب الصنوبر لأنه يحتوي على الكثير من مادة الراتنج التي تتسبب في إمتصاص الخشب لنكهة الكعك.
انتعش هذا النوع من الفن الشعبي في العصور الوسطى، حيث صارت لكل عائلة تقريباً قوالبها الخاصة واشكال الكعك التي تشير اليها. مع ذلك، فالخشب الذي تُصنع منه هذه الاشكال الجميلة لا يمكنه مع الأسف الصمود الى مالانهاية وتحت كل الظروف، لذا تأثرت هذه القطع الجميلة كثيراً وبدأت القديمة منها بالاختفاء، وأقدم ألواح صناعة الكعك الموجودة الآن في هولندا ومازالت بهيئة رائعة، تعود لسنة ١٦٠٠ وتضمها بعض المتاحف والمجموعات الخاصة.
يعتبر مؤرخو الفن ان قوالب الكعك، هي مثال رائع للفن الشعبي الذي إمتحنته مئات السنوات وظل جميلاً ومؤثراً ويعكس نوعاً من البهجة والمتعة واللذة التي تُعيدنا الى المذاقات المختلفة لهذه الأشكال القريبة من الصغير والكبير، وصارت جزءً لا يتجزء من الحياة وخاصة في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وحتى حين بدأت المكائن والعدد الحديثة بالظهور، لم تتأثر قوالب الكعك التقليدية، ولم يختفِ هذا الفن، وظل موجوداً في أغلب البيوت الهولندية، وكان الكثير من الخبازين يحفرون هذه القوالب بأنفسهم أو ينيطون بهذه المهمة لبعض النجارين المتخصصين الذين كانوا في الغالب يتجولون ويدورون بين القرى لعرض وبيع قوالبهم المختلفة. وقد عُثِرَ في بلدية أمستردام على وثيقة قديمة تعود لرجل اسمه يان يانس، وقد ذُكِرَ فيها أمامَ إسمه مهنته كحفار أو صانع ألواح الكعك. عموماً كانت القوالب الصغير تخص أفران الخبز العادية فقط، فيما كانت القوالب الكبيرة يختص بها فقط صانعي الكعك وباقي أنواع المعجنات. وبما ان الصحف والمجلات لم تكن معروفة في تلك الفترات البعيدة، لذا وفرت لنا قوالب الكعك القديمة معرفة كل ما يتعلق بالحياة الاجتماعية والسياسية والدينية، حيث كانت أشكال الكعك تظهر هيئات للسفن القديمة والطواحين والزهور وراكبي الخيول والصيادين والمهرجين والعازفين والنساء المنشغلات بالغَزِل وحتى أوقات قطف التفاح وعمال تنظيف المداخن. هذا ما يمكن أن تقوله لنا قوالب الكعك، بعد رحلتها مع هذه السنوات الطويلة، حيث تستريح الآن وسط المتاحف للاحتفاء بها وبما منحته للناس من جمال ومتعة في حياتهم اليومية وأعيادهم ومناسباتهم الجميلة.