د. ضياء خضير
في كتاب كاظم المقدادي (الكتابة على جذع نخلة) مقال عنوانه (المحتقن في تصفير الزمن)، هو الأول من مقالات الكتاب، وواحد من أكثر الموضوعات قراءة وردود أفعال ممن قرأوه وعلقوا عليه لدى نشره في بعض وسائل التواصل الاجتماعي.
وهو يصف بطريقة مجازية ضيقَ الكاتب بما يتوفر له من هذا الزمن ومحاولته ذات الطبيعة الرياضية تحقيق الشعور بوجود المزيد من ساعات هذا الزمن وأيامه، فيما يبدو هذا الزمن، على العكس من ذلك، زائدًا، ولا معنى له لدى كثيرين غيره من العراقيين ممن لا يشكل مرور الدقائق والساعات والأيام أيُّ معنى بالنسبة إليهم.
وما نسمعه الآن من رئيس وزراء العراق محمد شياع السوداني من كلام يردده لدى حديثه مع العاملين في إنجاز بعض المشاريع في العاصمة بغداد:
)ترى ما عندنا وقت!(
يبدو علامة طيبة على هذا الإدراك المتزايد لخطورة الزمن في حياتنا العامة في العراق بعد سنوات طويلة من الإهمال وضياع الفرص.
وقد قلت في مقالتي السابقة عن كتاب المقدادي إن الزمن موضوع يستحق بنفسه التوقف عنده بشيء من التأني والتأمل، لأنه يلامس، أكثر من غيره، ربما، واقعَ الحالة العراقية، التي توقف فيها الزمن أو تراجع إلى الوراء خلال سنين طويلة، خلافا لما حصل ويحصل لدى شعوب وأمم أخرى قريبة وبعيدة، نهضت حديثا مما يشبه العدم، وحققت تقدما وتطورا فاقت به بلدا كالعراق كان قد تقدمها بأشواط في ماضيه القريب والبعيد. ولذلك، فإن ما نتحدث عنه هنا ليس فقط زمنا شخصيا أو فلسفيًا، وإنما هو أيضا زمن عام تسجل فيه عقارب الساعة دقات القلب ونبضاته، مثلما تسجل دورة الزمن الأرضي وحركة التقدم العلمي والتكنولوجي والرقمي والذكاء الاصطناعي الذي غير وسيغير وجه التاريخ والمجتمع البشري الحديث.
ومحاولة المقدادي في ذلك المقال (تصفير) هذا الزمن من أجل البدء من جديد، تشبه لديه عملية (تصفير) العملة النقدية بحذف الأصفار الثلاثة. وهي عملية تبيّن فيما بعد أنها لا تختلف في عدم جدواها عن وضع هذه الأصفار على الشمال، بدلا عن وضعها على اليمين، لأنها غيرُ ذات أهمية وقيمة لدى المتعاملين بهذه العملة من العراقيين الذين عرفوا الدينار ومضاعفاته الورقية زمنا طويلا دون هذه الأصفار، وتعاملوا معه بوضعه القديم ذاك عهودا طويلة. وكأن الزمن وتغير المآل من حال إلى حال كان يحدث على السطح، ولا دور له فيما يحصل في عمق الذات العراقية والذاكرة الجمعية التي لا تريد أن تنفض عنها غبار الماضي لتعاود النهوض من رمادها من جديد مثل عنقاء مغرب.
يقول المقدادي:
"فكرت جديا بتصفير الزمن على طريقة تصفير العملة النقدية. ولم لا، ونحن نعرف أنه، وفي العملية الحسابية والمالية، ترفع الأصفار الزائدة التي ترعرعت وفرّخت، وتكاثرت على وجه العملة الورقية وأصبحت عائلة من الآباء والأولاد والأحفاد والأجداد، ولم تتوقف بسبب فشل النظريات الاقتصادية في دول غابت عنها العقول الذكية، وجبرت فيها العقول الغبية".
والسؤال الذي يضعه المؤلف عن كيفية تصفير الزمن بعد هذا الكلام هو المهم، أو الأكثر أهمية، وهو:
"هل نلغي الثواني والدقائق والساعات، والأيام والأسابيع والشهور والسنوات، أو نجعل من الثانية ساعة، والدقيقة يوما، والساعة أسبوعا، والشهر سنة؟ ".
والجواب على هذه الأسئلة الافتراضية المتخيلة لا يأتي على لسان علماء مثل أينشتاين أو ستيفن هوكينج، ولا فلاسفة مثل نيتشة أو جاستون باشلار، م من يستعرض الكاتب بعض ما توصلوا إليه بعلمهم ومعادلاتهم من واقع زمني غريب، وإنما يمكن لهذا الجواب أن يأتي بطريقة أكثر بساطة وعملية من عشاق الطرب من مدمني الأركيلة البغداديين من الذين فضلوا المعسل بتفاحتين على تفاحة نيوتن، وتفاحة ستيف جوبز، لانهم وجدوا حلا لموضوع تسارع الزمن عند كوكب الشرق أم كلثوم وهي تقول للشمس في إحدى أغنياتها، تعالي تعالي بعد سنة، موش قبل سنة..!
هذا ما يقوله المقدادي، وفيه تصل السخرية والمفارقة إلى أقصاهما بين الكاتب الذي يبقى "محتقنا" لأنه لا يجد حلا لمرورالوقت وكرّ السنوات السريع، وبين مدمني الأركيلة ومتبطلي المقاهي والدوائر الحكومية الفائضين عن الحاجة، وعاشقي أغاني أم كلثوم وجمهور حفلاتها الذي لا يملّ من طلب إعادة مقاطع أغنياتها مرفوقا بالكلمة التي كنا نسمعها من إخواننا المصريين باستمرار "دا احنا ورانا حاجة!"، وغير أولئك وهؤلاء من الذين تبدو ساعاتهم مكسورة أو بلا عقارب، ويعانون من فائض الوقت، لا من نقصه.
وكل ذلك يحتاج، كما نرى، إلى مزيد من التأمل والبحث عن الأسباب التي أدت إلى هذا التواكل والكسل وما يتبعهما من سخرية مؤذية، وعدم إدراك للضرورات التي أدت إلى تأخّر البلد، وجعلت منه واحدا من بلدان العالم الثالث التي توقفت فيها الأرض عن الدوران، وصار يضرب بها المثل في التراجع وعدم استغلال الفرص المتاحة للتقدم إلى أمام وصنع زمن جديد ينتظم فيه العراق في إطار دول العالم الحديث التي تدور فيه الأرض حول الشمس وحول نفسها دون توقف.
ولست أدري إن كان كاظم المقدادي وهو يكتب تلك الفقرة عن الزمن قد اطلع على ما كتبه الشاعر النمساوي رينر ماريا ريلكه في بداية القرن الماضي في مذكراته الباريسية التي نسبها في رواية مذكراته إلى بطل خيالي أسماه مالته لوريدز بريغّه. لأن ما رواه بريغه هذا عن موظف صغير اسمه نيقولاي كزمتش كان جارا له في فندق بسان بطرسبورغ، عن موقف هذا الموظف من الزمن، يشبه كثيرا ما رواه المقدادي هنا.
فقد خطر لكزمتش هذا ذات يوم أحد بأن يعدّ ما تبقى له من عمر إذا افترض أنه سيعيش خمسين سنه أخرى، بالأيام والساعات والدقائق. بل إنه حول عمره إلى ثوان، وذهل لذلك الرصيد العظيم الذي تحصل عليه فجأة. وحين غمره ذلك الثراء الزمني غير المتوقع أخذ يتدبر حساباته بعناية فائقة، محاولا أن يوفر الزمن ما أمكنه ذلك. فبدأ يفيق باكرًا، وينفق وقتا أقلّ من ذي قبل في الاغتسال، ويجري في كل اتجاه، ولكنه كان حين يوازن حساباته في كل أحد تالٍ لم يجد لديه أيَّ وفر ملموس، فبدأ يوبخ نفسه لأنه لم يقدّر عمره بوحدات أكبر – مثلا بأربع قطع من فئة العشر سنوات، وبقطعة واحدة من فئة الخمس، والباقي بمبالغ صغيرة، بدلا من أن يتقاضاه بالفكة الصغيرة التي تنساب بسهولة بين أصابع يده.
وأخيرًا صحا نيقولاي كزمتش على حقيقة أنه كان يخدع نفسه حين كان يطبق على العمر مفهوم المالية، ذلك أن الزمن، بعد كل شيء، بعدٌ يؤثر في كل إنسان بالطريقة نفسها، وليس مجرد تحد ذاتي. وحين بلغ هذا التسويغ المعزّي، صكّه إحساس جديد حين كان يجلس في غرفته المظلمة، حين بدأ يحس بتيار هوائي، ويشعر أنه تيار الزمن الذي كان يجري ماضيا في سبيله دون توقف. ودارسو تيار الوعي في الرواية الحديثة كما اطلعوا عليها لدى فرجينيا وولف ومارسيل بروست وجيمس جويس وغيرهم يعرفون مدى التأثير العالمي الذي مارسته كتابات ريلكة في هذا الكتاب المبكر عليهم.
وما نود أن نقوله عن علاقة زمننا العراقي الخاص بكل ذلك، هو أننا لا نعيش زمنا وحدا، وإنما أزمانا مختلفة بعضها ينتمي للماضي البعيد، والآخر إلى الحاضر الراهن، بهذه الكيفية أو تلك.
وهو أمر لا علاقة له بما أثبته العلم من وجود أزمنة متعددة في الفضاء الواحد، وأن الزمن يتباطأ في السرعات الكبرى، ويكون صفرا في سرعة الضوء.. إلخ. فما نتحدث عنه هنا هو زمننا الثقافي والاجتماعي العراقي الخاص.
ومن ير إلى الجموع التي تزحف من المحافظات العراقية المختلفة نحو النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء في بعض المناسبات الدينية هذه السنوات الأخيرة يمكنْ أن يدرك هذا النوع من التجاور بين الماضي البعيد المترسخ في ذاكرة هذه الجموع السائرة في نومها أو وعيها مدفوعة بحبها لسيد الشهداء أبي عبد الله الحسين المقتول قبل أكثر من ١٤٠٠عام، وبين زمن الحاضر الراهن الذي تسجله عقارب ساعات أيديهم وهواتفهم الذكية.
والأمر لا يتعلق باتصال وتجاور طبيعي عند هؤلاء فيما نسميه التراث والمعاصرة، لأن الهوة واسعة والبون شاسع بين ما يجري التفكير فيه، وبين ما تتم ممارسته من طقوس دينية وشعبية تختلط فيها النوايا الطيبة والبريئة مع الأفعال والممارسات الدنيوية المناقضة لها.
وقد نظلم أولئك الذين يمضون زمنهم في المقاهي بلعب الطاولة وتدخين الأركيلة وسماع أغاني أم كلثوم وهم يعيشون في حال شبه دائمة من الزمن الصفري وتياره الممتد أفقيا بلا نهاية، ولا علاقة له بعقارب الساعة المتقدمة إلى الأمام أو المتوقفه والمتراجعة إلى الوراء.