حيدر المحسن
لا أعرف كيف دار مكان اللقاء مع الصديق القادم من فنلندا، واستقرّ عند مقهىً يجاور جامع حيّ الفضل الحائط على الحائط، وضوء النهار كان يملأ المقهى عبر النافذة الواسعة، واليوم جمعة والوقت صلاة الظهر، فاختلطت أصواتنا، وكان ثالثنا النحّات سماري إبراهيم، مع صياح المؤذّن يُلقي خطبة في أمور العقاب والثواب وفضيلة شهر الطاعة على بقيّة الشهور.
"هل تعرف أني فضلاوي؟".
قال لي سعد هادي في الهاتف عندما أخبرته بمكان اللقاء. حوالي عشرين سنةً مضت على آخر اجتماع بيننا، وقد مرّت مرّ السحابِ حين يعبرُ السماء من غير رَيث. بعد ثلاث ساعات من التذكّر والنقاش والجدال في المقهى، قمنا نتجوّل في الحيّ وصديقنا يستعيد سنينه الأولى، فيأتينا بالوصف من الذاكرة لا من الواقع:
"في هذا الزقاق يقع بيتنا، وهناك بيت عمّي، أخبروني حين وصلتُ بغداد أنّه توفّي، وعليّ موافاة المأتم من أجل موساة أهله وقراءة سورة الفاتحة".
عشرون سنة مرّت كيوم واحد، ولم يتغيّر في صديقنا فنلندي الجنسيّة شيء، عاطفته الشديدة تجاه بلده وعزلته عن الآخرين وثقافته الواسعة، من فنّ القصّ إلى آخر صيحات الموضة في السينما، مرورا بالتاريخ وفنّ التشكيل وقراءة الوجوه مثلما يفعل قارئ الكفّ. عندما ينظر سعد هادي إليك تتحرّك عينه اليمنى بالخفاء إلى الجانب، شبه حولٍ غير مرئيّ ولا محسوس، لكنه موجود في الحدس، يسبر بواسطته الوسط الذي هو فيه، وهذه في الحقيقة ليست سوى نظرة الفنّ:
"هنا آثار ما كان يُدعى (حمّام المالح) حيث دارت أحداث رواية (المخاض) لغائب طعمة فرمان. أكثر رواية قريبة إليّ هي (النخلة والجيران) لأنها تُرينا قاع الواقع لا سطحه".
مثل هذه النظرة تلقاها من سعد هادي حين يختلف معك في الرأي، ويظلّ في الوقت نفسه ساكتا. الخجلُ والأدبُ الوفيرُ، وربما اللامبالاة، تمنعه من المغالبة في إبداء وجهة النظر، وتأخذ العين بالتعبير بدل الشفتين واللسان. كنّا نسير في درابين الحيّ وفي شارع السوق، وتوقّف صديقنا الفضلاويّ المنبت عند كراج واسع لغسل السيّارات. قال وهو يرسل نظرته إلى الداخل:
"لكنّه حمّام الفضل الرئيسي بقسميه للرجال والنساء، فكيف صار مكانا لتشحيم وغسل العجلات؟". ولم يردّ على سؤاله بالطبع أحد، لأني عماريّ في الأصل وسماري من دارة النجف. بقيَ السؤال عالقا في الجوّ برهة، وجاءنا الجواب من حائط في الجدار الأيمن من الكراج المعتم، كما لو أنه صار كائنا ناطقا وظل يحكى عمّا كان يجري تحت مجرى الماء الساخن وخلف الأبواب...
"هذه الدربونة اسمها (محلّة عباس أفندي)، وفي الجانب الآخر تقع (المهديّة). كما أنني أرى الوجوه هنا، وتعود بي مباشرة إلى قبل أربعين أو خمسين سنة، فأتصوّرها من تحت ركام الزمان".
كنّا نتجوّل أنا والصديق سماري في مكان لا نعرف تفاصيله في السابق، أو أن الماضي عندنا هو الآن، بينما كان سعد هادي يجوس الزمان القديم في المكان الحاضر، أي أنه يبحث في الزمكان بلغة النقّاد الفلاسفة. ولكن هل حان وقتُ الحديث عن "قاعة أور"، وكنّا اشتركنا فيها نحن الثلاثة؟
تعود القصّة إلى التسعينات، وكانت السيّدة وداد الأورفلي نقلت الكاليري الذي يحمل اسمها إلى عمّان، وبقي مكانه في حيّ المنصور شاغرا. شغلته مباشرة قاعة أور للفنّ التشكيلي، وكان مؤسّسها ومديرها وصاحب الامتياز سعد هادي. صار في أيدينا الكثير من الحُبّ وفي المقل الإشراق وهي ترى اللوحات تزيّن الجدران، وقد أحضر سعد هادي إلى بيتنا، قاعة أور، عمالقة الفنّ العراقي في ذلك الزمان، شاكر حسن آل سعيد وإسماعيل فتّاح الترك وسعدي الكعبي ونوري الراوي ومحمد مهر الدين وعامر العبيدي وسالم الدبّاغ وشدّاد عبد القهّار وحيّان...عملنا لهم معرضا مشتركا في ربيع بغداديّ لا أصفى من سمائه، واجتمعنا وشربنا من ماء زكيّ طهور. عندما أدور في قاعات الفنّ في بغداد وفي غيرها، أستروح عطرا زكيّا من شذى تلك الأيام السعيدة. شكرا للصديق سعد هادي أنه قام بتلك الخطوة العظيمة.