اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > غير مصنف > واستقرّت بها النوى..مشاهد والتقاطات من سيرة ذاتية

واستقرّت بها النوى..مشاهد والتقاطات من سيرة ذاتية

نشر في: 24 إبريل, 2024: 12:42 ص

لطفية الدليمي

السيرة الذاتية -والمذكرات كذلك- جنسٌ أدبي أحبّه كثيراً، وأظنُّ أنّ كثيرين يشاركونني هذا الحب. ليس هذا الحب ظاهرة مخصوصة بالعراقيين والعرب بل هو ظاهرة بأبعاد عالمية. أعتقدُ أنّ هذا الحب لهذا الجنس الادبي يتأتّى من مصدريْن:

المصدر الاول هو الفضول البشري لمعرفة كيف عاش أناسٌ جاءوا هذا العالم قبلنا، وكيف تفاعلوا معه وخاضوا مشقاته. الحياة لعبة شاقة وليست حفلة شاي، وسيكون من المفهوم أن (نتلصّص) بطريقة مشروعة على التفاصيل الصغيرة لحياة بعض البشر المميّزين ممّن يستحقون أن تروى حكاياتهم بكلّ تفاصيلها التي يرونها ممكنة لإطلاع الآخرين. المصدر الثاني هو الرغبة الجامحة لتفادي الاخطاء التي يمكن تفاديها أو تقليل نتائجها المعرقلة لمسيرتنا الحياتية والمهنية. السير الذاتية والمذكرات (الجيّدة) هي في النهاية مناجمُ خبرة جاهزة لمن يسعى للإنتفاع منها.

ما هو معيارُ الجودة في السيرة الذاتية؟ أظنُّ أنّه قدرة كاتب السيرة الذاتية على توليف (الخاص) مع (العام) في توليفة متناغمة تستحقُّ أن تمثل خبرة حقيقية للقارئ تمتّعُهُ وتزيده معرفة عملية (وأكاديمية في بعض السير المخصوصة). كلٌّ منّا لا يتحرّكُ أو ينشط في أي منشط مجتمعي وكأنّه كينونة فردانية منفلتة. لا أحد منّا هو جزيرة لوحده كما يقول الشاعر جون دَنْ John Donne؛ فإذا ما نجح الكاتب في الكشف عن الجوانب المشتبكة (الصراعية أحياناً) بين نوازعه المحلّقة والظروف المجتمعية المحيطة به –والتي قد تكون معيقة بصورة قاسية- فحينئذ لا بدّ من تسجيل نجاح الكاتب في سيرته الذاتية.

أتيحت لي في الايام القليلة الماضية قراءة كتاب السيرة الذاتية للدكتور حمزة بن قبلان المُزَيني – تلك السيرة التي إختار لها عنواناً جميلاً مستلّاً من تراثنا الشعري: "واستقرّت بها النوى". الدكتور المزيني شخصية ثقافية وأكاديمية سعودية مرموقة، متخصّص في اللسانيات، كاتب ومترجم مشهود له بالدقّة والحرص والكفاءة، ألّف وترجم كتباً عديدة، وسبق له أن حصل على جائزة الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمية في الترجمة عام 2022. ثمة علاقة إنسانية وأكاديمية رفيعة تربطالدكتور المزيني مع عالم اللغويات الامريكي نعوم تشومسكي، واعتقد أنّ المزيني هو أفضل من ترجم تشومسكي إلى العربية.

كانت قراءة كتاب السيرة الذاتية للمزيني مصدر متعة حقيقية لي فضلاً عن تحقيقها وبامتياز لشرط الجودة المنوّه عنه أعلاه. سأكتفي في الفقرات التالية بتأشير بعض معالم التداخل بين (الخاص) و(العام) في هذه السيرة الذاتية:

1.الدراسة في المدرسة الصناعية: بعد أنّ أتمّ المزيني الدراسة الابتدائية أراد الاتحاق بدرسة المعلّمين لكيما يحصل على راتب شهري بعد سنتين من الدراسة بمقدار 450 ريالاً وهو مبلغ معتبرٌ حينها؛ لكنّ طلبه -مع طلب أخيه- رُفِض من قبل اللجنة المشرفة بحجّة أنّ قامته القصيرة وبنيته النحيفة ستجعلانه يبدو مثل التلاميذ الذين سيدرُّسُ لهم. أراد المزيني الالتحاق بالدراسة المتوسطة الاكاديمية لكنّ رسوم الدراسة كانت مكلفة حينها؛ فلم يبق أمامه سوى الالتحاق بالمدرسة الصناعية:

" ولم أرتح للدراسة في المدرسة الصناعية بسبب تنقّلي المستمر بين تلك الاقسام التي كانت تعجُّ بروائح الزيوت والادخنة الكثيفة إضافة إلى صرير المكائن والىلات ممذا كنت أضطر بسببه إلى لف "غترتي" على فمي وأنفي..... وحصلتُ في اختبار نهاية السنة الاولى على تقدير"ممتاز"، وقرّرتُ حينها أنّ هذا المسار في الدراسة لا يناسبني ولا يحقّق طموحي......." (ص 127).

عرف المزيني من البداية ما جُبِلت عليه ذائقته الدراسية وما تأسّس عليه طموحه الثقافي والاكاديمي. لم تُغوِهِ درجة "الامتياز" في المضي بمسار دراسي يعرف في دواخل روحه أنه ليس متوافقاً مع رغائبه الحقيقية. كان صادقاً ونزيهاً مع نفسه، ومن يكُ كذلك لا بدّ أن يحصل على ما يريد، وقد حصل بالفعل أن عاد المزيني للانتظام في الدراسة المتوسطة ومواصلة مسيرته الاكاديمية.

2. حكاية منيع الله: عندما يحكي المزيني عن طفولته ودراسته الابتدائية فهو يتكلّم عن زمن يمتدُّ إلى الوراء بما يقاربُ الثلاثة أرباع القرن. لم تكن الطرقات معبّدة مثل اليوم، والسيارات شحيحة، ورحلة الذهاب إلى المدرسة والعودة منها كانت عملاً شاقاً:

" منيع الله إسمُ رجلٍ ربما لا يكون مشهوراً خارج محيط أقاربه ومعارفه؛ فهو إنسانٌ من سائر الناس، وهو ليس قريباً لي ولا مدرّساً ولا صديقاً ولا زميل دراسة ولا زميل عمل؛ ومع هذا لا زلتُ أحتفظ له بأجمل الذكرى...... كان هذا الرجل مختلفاً عن سائقي القلّابات جميعاً بقوله لنا في أوّل يوم وصلنا فيه إلى المكان الذي ينقلُ منه الرمل: لا تطلبوا مرة أخرى مني السماح لكم بالركوب بل تعالوا واركبوا مسموحاً لكم دائماً......." (ص 134- 135)

هذه النزاهة والاعتراف بجميل الصنائع سنجدها في غير موضع من السيرة ابتداءً من الاشارة إلى صنائع والدة المزيني وأخوته الكبار -وبخاصة سالم- الذي توفّي في لحظة أقرب إلى فاجعة.

3. تحويل دراسة الدكتوراه من بريطانيا إلى أمريكا: أظنّ أنّ ما قام به الدكتور المزيني من إنعطافة (ثورية) في هذه الانتقالة النوعية إنّما يكشف عن جرأة في اتخاذ القرار لايستطيعها إلّا القلّة، ومن جانب آخر يكشف عن الفرق النوعي الهائل في هيكلية الدراسات العليا (ماجستير ودكتوراه) بين بريطانيا والولايات المتّحدة الامريكية.

بعد أن قضى المزيني سنتين (من أصل ثلاث هي في الغالب مخصصة للدكتوراه) رأى أنّ ما يقوم به لا يرقى لشهادة دكتوراه معتبرة. النظام البريطاني يقوم على أساس أن ينهض طالب الدكتوراه بمعظم عبء البحث والدراسة والقراءة والتدقيق ومراجعة البحوث والكتب، وليس عليه سوى كلّ أسبوعين أو ثلاثة المرور بمكتب أستاذه المشرف لساعة أو إثنتين لعمل (جردة حساب) بما تحقّق. أشارك المزيني رأيه بعقم هذه الطريقة التي قد تبدو متماشية مع الليبرالية التعليمية التي تفترض أنّ طالب الدكتوراه مبنيٌّ بناء رصيناً متكاملاً وهو من يتوجّبُ عليه العمل منفرداً كلّ الوقت. النظام الامريكي يختلف: نعلمُ جميعاً أنّ التعليم الامريكي ما قبل الجامعي وكذلك الجامعي على نطاق الدراسات الاولية لا يحصل سوى على مراتب متراجعة بالقياس مع النظم الاوربية والصين واليابان وكوريا الجنوبية؛ لكنّ الحال يختلف تماماً مع الدراسات العليا إذ يبدأ النسق التعليمي يتشدّد في مطالبه ويفترض مشاركة حقيقية بين الاستاذ المشرف والطالب بغية الحصول على نتائج عملية منتجة. هذا ما تحقق للدكتور المزيني في جامعة تكساس/أوستن التي منحته شهادة دكتوراه حصلت على تقدير خاص ونافست على الشهادات العشر الافضل الممنوحة في السنة التي حصل فيها المزيني عليها.

4. موضوعة الطبقية اللغوية والتحيّز اللغوي: تحدّث المزيني في سيرته -وفي مناظرات معروفة له- عن تهافت فكرة القول بأفضلية أو علوية لغة على أخرى بذرائع دينية أو قومية. كلّ لغة لها فضاء اشتغالها الخاص الذي ستتعامل معه بطريقة أفضل من سواها، ثمّ أنّ الجهاز اللغوي لدى الطفل يبدو "محايداً" من حيث قدرته على تعلّم أية لغة من غير موانع آيديولوجية أو محدّدات عرقية. قرن المزيني جهوده هذه بأن ترجم إلى العربية كتاباً مثيراً شديد الاهمية عنوانه" هل بعضُ اللغات أفضل من بعض؟".

5. العمل خارج نطاق الاكاديميا: عمل المزيني بعض الوقت ملحقاً ثقافياً في السفارة السعودية بتايوان. جاءت هذه التجربة جديدة عليه تماماً وكشفت له بعض خفايا العمل الدبلوماسي. يبدو أنّ المزيني لم يتأهّل لمثل هذه النمط من الاعمال لأنّه لا يتوفّرُ على المزايا النفسية والمعالم الذهنية المطلوبة لها، وهو يعترف بهذا ولا يناورُ في التصريح به. سعيدٌ كلُّ من عرف نطاق عمله ومبعث سعادته وعمل في هذا النطاق. قد يحصلُ أحياناً لسبب لوجستي أو إعتباري موجب أن يعمل المرء في غير نطاقه؛ لكن يجب أن يحصل هذا الامر لزمن محدود وإلّا إنقلب وبالاً عليه.

6. الترجمة: تستحقُّ ترجمات المزيني في حقل اللسانيات أو في غير هذا الحقل أن تكون ميداناً متفرّداُ مستقلاً للكتابة عنه. بدأت جهود المزيني مع الترجمة في الحقل اللساني كما هو متوقّعٌ:

"... لذلك عزمتُ على ترجمة بعض الكتب الاساسية في إطار المدرسة التوليدية التي حققت إنجازات ضخمة غير مسبوقة في دراسة اللغة، وممّا ترجمته في هذا السياق كتاب تشومسكي (اللغة ومشكلات المعرفة: محاضرات ماناغوا)..... ومنها كتاب ستيفن بنكر (الغريزة اللغوية: كيف يخلق العقل اللغة)... "

ثم اعقبت الترجمات اللسانية ترجمات عامة لا تبتعد كثيراً عن الحقل اللغوي العام. ربما يمثّلُ كتاب (الحيوات السرية للدماغ) أحد الترجمات الاكثر اثارة للمزيني خارج النطاق اللغوي أو اللساني الصارم.

***

هذا الذي إختصرته في حدود الالف كلمة السابقة إجتهدتُ أن يكون تلخيصاً شديد التكثيف لمشاهد ومالتقاطات من سيرة ذاتية تتاخمُ حدود الستمائة صفحة، وسأترك لكم أن تتخيّلوا كمّ المعلومات والمعرفة التي تضمّها.

قراءة السيرة الذاتية للمزيني- مثل سائر كتبه المؤلفة والمترجمة- تجربة ثرية أرجو أن ينال أعظم عدد من القرّاء حصصهم المشروعة منها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. حمزة بن قبلان المزيني

    منذ 1 شهر

    خالص الشكر والامتنان للأستاذة لطفية الدليمي على هذا العرض الوافي لـ واستقرت بها النوى . إن كتابة الكاتبة الناقدة المترجمة المتميزة الأستاذة لطفية عن كتابي قيمةٌ مضافة غالية للكتاب أعتز بها كثيرًا. فللأستاذة العزيزة لطفية الدليمي شكري وتقديري ثانيا وثالثا.

يحدث الآن

اليوم ..خمس مباريات في انطلاق الجولة الـ 36 لدوري نجوم العراق

بدء التصويت في انتخابات فرنسا التشريعية

"واتساب" يختبر ميزة جديدة عند الفشل بارسال الصور والفيديوهات

تطوير لقاحات جديدة للقضاء على الحصبة نهائياً

الأونروا: سكان غزة فقدوا كل مقومات الحياة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

فريق ألماني يكتشف مدينة تاريخيّة وأقدم إمبراطوريّة إنسانيّة من العهد البرونزي في دهوك

مارلين مونرو.. قصة حزينة جداً!

قراءة في كتاب: دراسات في تاريخ الاقتصاد والفكر الاقتصادي

القذافي.. سيرة حياة كارثية!

السحر الغريب لألف ليلة وليلة

مقالات ذات صلة

بالصور| بيت المدى ومعهد غوتا يستذكران الموسيقار محمد جواد أموري
غير مصنف

بالصور| بيت المدى ومعهد غوتا يستذكران الموسيقار محمد جواد أموري

بغداد / المدىعدسة: محمود رؤوفأقام بيت المدى التابع لمؤسسة المدى للاعلام والثقافة والفنون وبالتعاون مع معهد غوتا، اليوم الجمعة، فعالية تحت عنوان "محمد جواد أموري.. صانع النجوم"، بمناسبة مرور عشرة اعوام على رحيل الملحن...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram