طالب عبد العزيز
وأنا أقرأ في كراسة(على باب الخرابة والمسجد والمعبد اسجد) شذرات عرفانية لروح الله الخميني بترجمة ورواية الصديق الشاعر محمد الامين الكرخي، والصادر عن دار لازورد، كانت تؤرقني فكرة مفادها كيف تسنّى لهذا الزعيم، العرفاني، الصوفي،
الزاهد العيش في سنوات الحرب الثمانية، بمشهدها الدموي المروّع، وهل كتبها قبل تجرّع كأسِ قبوله بإنهائها؟ لا شكَّ أنه كان امتحاناً صعباً على من يقول:" يا أسَّ كلِّ خرائبي وقصوري! أجِّلْ العشقَ والطربَ والخمرةَ، يا صاح لأوانِ السحرْ! بالخمرة توضّأ! ففي مذهب العابثين، سينال عملك الحسنى" أو "ليس سوى موجةٍ، هذا الكون، ولكن أين الساحل؟ اين البحر؟ ". وكأغلب أشعار المتصوفة جاء الكراسُ الصغيرُ مشحوناً بمشاعر العشق والحب والدنو والقبل والنبيذ والسكر.. وهذه مفردات يؤثث بها كتّاب وشعراء العشق الصوفي نصوصهم، وعُرفوا بها، لأنها تأتي مطابقةً لأرواحهم وسلوكهم، لكنني، في الكراس الصغير بل ومع قصائد كثيرة له لم يحوها الكراس أجدني دائراً معه في حضرة الوجد، صارخاً في لحظة عشقه: "يا عظيم، يا شاعر، يا محبّ". ما نطالعه في أشعار روح الله الخميني لا يختلف عن ما طالعناه في كتب المتصوفة الكبار، إذْ كلهم يشتركون بذات المفردات، وينهلون من الروح الكلية قصائدهم، غير عابئين بما يقال عنهم بذكر الخمرة والمحبوب، فهي معلومة بوقوعها خارج غايات الجسد عندهم. لكنْ، هل حقاً يقتصر مراد هؤلاء على ما وراء مفردات العشق والخمرة والوجد والقبل تلك؟ ولماذا نجردهم من نزوعهم الانساني؟ ولماذا نجعل من أجسادهم أثيراً ملائكياً لا يمسه الفعل الانساني بسوء؟ وهل هم حقّاً إلا مخلوقات شاء الرب لها أن تكون طاهرةً، نقيةً، مبرأةً من كل إثم؟ على وفق الاسئلة هذه كنت محمولاً على معادِلين قاسيين:(الحرب والقبول بها، والحبُّ والاخلاص له) عنده، ولم أستطع الفصل بين ما قاسيته في الحرب بوصفي جندياً سيق بحتفه المجهول لها، وشذرات الحب التي تطالعني في الكراسة الصغيرة هذه! فأنظر في عيون الجنود القتلى، الذين كان أخي أحدهم، ثم أعيد النظر في عيني صورته التي تطالعني في كراسة العشق هذه، وأحار بأيِّ العيون أنظر! كيف لمن يقول:" في الخلوة من كأس الخمرة سمعنا الحبيب منادياً: لبيك لبيك" أو المعشوق بائع خمر، في بلاطه، أنا خادم" وهل كانت الحرب التي خضتها مع الملايين هي الحرب التي يقصدها بقوله:" بيني وبين الصوفيِّ والدرويش والقلندر* حربٌ طاحنةٌ" فأقول إذا كانت حربه التي يصفها بالطاحنة، وهي حرب الروح مع غايات الجسد بكل تأكيد عنده، ترى لماذا قبل بحرب الجسد البرئ، العاجز، المقاد لرصاصها بعناد وعنجهية الدكتاتور؟ ولماذا لم تأخر بقبول نهايتها إلا بعد أنْ أتت بسرفاتها على الاجساد الصغيرة، التي لم تُمهلْ لتصبح أرواحاً كروحه بعرفانها وفنائها في المحبوب؟ يزيد السيد جوجل في تعريف القلندر فيكتب: " يرتفع القلندرُ فوق النظام الإداري، ويشهد جوهر الوحدانية بالتفصيل، وبَعْد الاستمتاعِ بالوحدةِ الكينونيةِ من دون أنْ يفقد درجاتِه، ثم يعودُ إلى وضعه الإنسانيِّ، لدرجة أنَّ صعوده وسقوطه يُصبح واحدًا، ونفسَ الشيءِ شيءٌ له" فأصرخُ: هل كان الرجل الشاعر الذائب في ذات إلهه (قلندراً) من طراز آخربحيث يسمح لنفسه بأنْ تكون فوق النظام الاداري(الرَّباني) وهل الجسدُ جوهر في الوحدانية، وإن جاء نجيعاً في مفردات الوجد والعشق والذوبان في روح الملكوت، أم أنَّ صعوده وسقوطه أصبحا واحداً، حتى ما عدنا نعرف كيف تسنى لليد التي رفعت الكأسَ مترعةً بخمرة المعشوق أنْ ترتفعها مترعةً بالدم. وبعيداً عن قراءتي (السيئة) هذه، أنا المساقُ عُنوةً للحرب، والمفجوع بشقيقه فيها، وبوكوني الشاهد الاخير عليها، هذه الحرب التي كانت عصمتُها بيد روح الله الخميني، سيكون الكراس الصغير هذا زاداً شعرياً كبيراً، باذخ الرفعة، كتبه عارفٌ وعرفانيٌّ كبير، وصيغ بترجمةِ شاعرٍ، محيطٍ بفنون القول عربييه وفارسييه، وسيبلغ الكراس هذا درجة كماله بالزمن، وينضجُ على نار النسيان، بوصفه درساً جمالياً، لكن بمجيئ جيلٍ جديدٍ، لم تضرسه حربُ الاعوام الثمانية بضرسها.