د محمد الربيعي
على مدار رحلة امتدت لنحو أربعة عقود، شهدت مسيرتي المهنية في السلك الأكاديمي الإشراف على نخبة من طلاب الدكتوراه في جامعات غربية، كان يحمل كل منهم شغفًا فريدًا، ومهارات استثنائية. وقد حظيت بمتابعة بعضهم يبحرون في رحلة المعرفة حتى نالوا تميزًا واضحًا، سطع نجمه في سماء العلم.
من رحم هذه التجربة الملهمة في الجامعات الغربية، أقدم لطلاب الدراسات العليا العرب، هذه الدروس والنصائح والملاحظات التي أراها مهمة، وقد لا تنطبق جميعها على البيئة الأكاديمية في جامعاتنا، لكنني أؤمن بأنها ستشكل لأبنائي وزملائي من الطلاب والباحثين بوصلة ترشدهم في رحلة البحث العلمي، وتساعدهم على تحقيق تطلعاتهم.
فتعالوا معي نعزز خبراتنا، ونثري معارفنا من خلال عدسة هذه الملاحظات.
يتمتع طلاب الدكتوراه المتميزون بقدرة فائقة على التفكير النقدي، وتحليل المعلومات بدقة، مدفوعين بفضول فكري عميق، ورغبة جامحة في فهم العالم من حولهم. كما يُظهرون مهارات تواصل قوية في الكتابة والعرض الشفهي، ويُعرَفون بشغفهم الحقيقي بمجال بحثهم، مما يدفعهم لبذل أقصى الجهود، والمثابرة في مسعاهم العلمي.
والى جانب ذلك، يتمتع هؤلاء بانضباط ذاتي عالٍ، وقدرة على العمل بشكل مستقل، مع مهارات فائقة في تنظيم الوقت، وإدارة مشاريعهم البحثية بكفاءة، إلى جانب امتلاكهم مهارات متقدمة في حل المشكلات، والتغلب على التحديات.
ولا ننسى أهمية روح التعاون التي تميز طلاب الدكتوراه النابغين؛ حيث يسعون دائمًا إلى تبادل الأفكار مع زملائهم وأساتذتهم، وخلق بيئة أكاديمية إيجابية تثري الجميع.
ومع كل ذلك، من المهم التأكيد على أن ما ذكرته في السطور الماضية تعميم لا يعكس التجارب الشخصية بدقة، فهناك العديد من المهارات الأخرى للتميز في برامج الدكتوراه، والأهم أن يكون لدى طالب الدكتوراه شغف حقيقي بمجال بحثه، وأن يكون على استعداد لبذل الجهد والمثابرة لتحقيق أهدافه.
وفي الواقع، لا تشبه رحلة الدكتوراه أي رحلة أخرى، حيث تقوم هذه الرحلة الاستثنائية لصاحبها على صفتين أساسيتين:
أولًا: القدرة على التعامل مع التحديات والاستجابة للنتائج غير المتوقعة؛ حيث يواجه الطالب في دروب المعرفة عواصف من التحديات، بداية من تعقيدات البحث العلمي إلى صعوبة الحصول على البيانات، ومن ضغوط الوقت إلى لحظات الشك واليأس، لكن لا ينسى المرء أن النجاح لا يعني غياب الفشل، بل القدرة على النهوض من بعده.
تذكر أن أعظم الاكتشافات العلمية ولدت من رحم الفشل والتحديات، لذا كن مستعدًا للتعامل مع كل تحدٍ بذكاء وحكمة، واجعل من كل فشلٍ درسًا يقويك وينعشك.
ثانيًا: الحيوية وحب التعلم والاهتمام بالتحديات الجديدة والخبرات؛ فرحلة الدكتوراه ليست مجرد واجب أو مهمة، بل هي شغف ينير دربك ويلهمك، فعليك أن تحب ما تفعله، وكن متشوقًا لمعرفة المزيد. لا تقيد نفسك بحدود، بل ابحث عن التحديات الجديدة، والخبرات المثيرة، فكل تجربة جديدة شعلة تنير دروب المعرفة.
تذكر أن رحلة الدكتوراه تشبه رحلة البذرة التي تصبح، مع النمو، شجرة باسقة؛ فلا تستسلم، وكن مثابرًا ونزيهًا، ولا تغرك الطرق القصيرة المشبوهة، واجعل من التحديات فرصًا للنمو والتطور. ومع كل خطوة تخطوها، ستقترب أكثر من تحقيق حلمك العلمي والمعرفي.
رحلة الإبداع والابتكار
ولا تقتصر رحلة الدكتوراه على مجرد اكتساب المعرفة؛ بل هي رحلة للإضافة والإلهام، فمن خلال بحثك الدؤوب، ستتمكن من إضافة لبنة جديدةٍ إلى صرح المعرفة في مجال دراستك. وهذه الإضافة لا تقتصر فقط على ما يتم نشره في المجلات العلمية، بل تشمل أيضًا كل ما تقدمه من أفكار جديدة، وحلول إبداعية لمشكلات معاصرة. لذا، كن مبتكرًا، ولا تخش الخروج من الصندوق، واجعل من بحثك رحلة ملهمة تثري حياتك وتساهم في بناء مستقبل أفضل.
ضع خطة منظمة لإدارة وقتك، وحدد أهدافًا قابلة للتحقيق، وكن ملتزمًا بتنفيذها. وتذكر أن رحلة الدكتوراه ليست رحلة وحيدة، بل هي رحلة جماعية تشارك فيها مع زملائك وأساتذتك، فاستفد من خبراتهم وتجاربهم، وكن متعاونًا ومشاركًا في مجتمعك العلمي. وبذلك، يمكنكم معًا تحقيق إنجازات عظيمة لكم، وللأجيال التالية من بعدكم.
البحث عن المعرفة العميقة
الغرض الأساسي من العمل على الدكتوراه هو تعميق وتوسيع المعرفة الإنسانية. ونظرًا لأنك تعمل على مستوى متقدم من المعرفة، فإن مادة البحث التي تعمل عليها يجب أن تكون صعبة وشاملة وغير مطروقة. ولذلك، يجب أن تكون قادرًا على الاستيعاب، وتحليل المادة بطريقة دقيقة (الذكاء والتفكير النقدي العاليين). ومع ذلك، لا يكفي فقط أن تكون ذكيًا، وتمتلك تفكيرًا نقديًا، بل يجب أن تكون مجتهدًا وملتزمًا بالعمل الجاد.
ومن الملحوظ أن بعض الطلاب الذين أبطأوا أو تعثروا في دراستهم الأولية تمكنوا من نيل الدكتوراه بنجاح. ولذلك، فإن الذكاء وحده ليس كافيًا في الحصول على الدكتوراه، ولكن يمكن أن يساعد في الحصول عليها بسلاسة، وليس معناه النجاح أو الفشل في الدكتوراه.
ومن الصفات المهمة التي يجب توافرها في طالب الدكتوراه المتميز: الصبر، والانضباط. بعض الطلاب يحبون طرح الأسئلة، والتفكير في طرق للإجابة، لكنهم يفتقرون إلى الصبر اللازم للعمل على إيجاد الجواب. بدلًا من ذلك، يلجأون إلى منصات التواصل الاجتماعي (السوشيال ميديا)، أو ينتقلون إلى فكرة أخرى. والحقيقة أن هناك حاجة للانضباط والصبر لإيجاد الجواب، وتجسيد الفكرة الإبداعية. أنت بحاجة إلى وجهة نظر طويلة المدى، حتى عندما لا تجد متعة في العمل (كالعصف الذهني، وإرضاء فضولك العلمي).
من كل ذلك، نقول إن الوصول إلى مرتبة الدكتوراه يتطلب من طالب الدراسات العليا أن يتمتع بذكاء استثنائي، وانضباط ذاتي، وتخطيط دقيق، مع قدرة على التواصل الفعال مع المشرف، بالإضافة إلى التعامل الإيجابي مع التحديات. ولتحقيق هذه الشروط، يجب أن يحيط الطالب نفسه بأشخاص يتمتعون بنفس الصفات. فعلى الرغم من كفاءة الباحثين، إلا أنهم بحاجة إلى مساعدة لزيادة الإنتاجية. وإذا اكتسب باحث الدكتوراه جميع الصفات التي ذكرناها في هذا المقال الموجز فإنه سيكون مؤهلًا، في تقديري، ليصبح مدرسًا جامعيًا باقتدار.