جيرار مارك/خبير اقتصادي
ترجمة: المدى
نشر المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية للتو تقريرًا ديموغرافيا يسلط الضوء على انخفاض معدل المواليد الفرنسيين. ووفقا لمصادر موثوقة، فإن هذا لا يدعمه إلا خصوبة النساء المهاجرات. ويشير هذا على المدى الطويل إلى انخفاض في العدد الإجمالي للسكان، وتكوين جديد لتكوينهم العرقي والثقافي.
هل يجب القلق من ذلك؟ بالنسبة لأغلب المواطنين الفرنسيين، فإن هذا السؤال ليس له عواقب مباشرة وفورية. إن الظواهر الديموغرافية لها جمود كبير ولا يمكن إدراك آثارها إلا بعد فترة طويلة. وفي أقصى تقدير، نسمع من أولئك الذين يخشون نقصاً محتملاً في العمالة أو شيخوخة السكان، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى اختلال التوازن في أنظمة معاشات التقاعد في فرنسا. وسوف يدعو هؤلاء إلى زيادة اللجوء إلى الهجرة.
وهذا يعني نسيان شيء وهو إن انخفاض عدد السكان النشطين من شأنه أن يؤدي إلى تعزيز القدرة التفاوضية للموظفين، وإعادة التوازن المرحب بها في توازن القوى بين العمل ورأس المال.كما إن السكان الذين يعيشون في حالة توازن ثابت، أي الذين تنمو أعدادهم ببطء، وتعوض الولادات لديهم الوفيات تقريبا، لا يمكن أن يظلوا شبابًا إلى الأبد.
وينتهي الأمر بأن يبدو الهرم العمري، ليس هرمًا ذا قاعدة عريضة،وفجأة يتسارع اختفاء كبار السن بعد سن 65 عاما. وللتعويض عن اختلال التوازن المتزايد في أنظمة معاشات التقاعد لدينا، نحتاج إلى ضخ مستمر، سنة بعد سنة، للعمال المهاجرين. وسيكون من الأفضل اختيار الخطط التي تعتمد على الدخل الناتج عن الاستثمارات التي تتم في الخارج، في البلدان التي لا تزال حديثة العهد.ونود أن نؤكد هنا على العواقب، ليس الاقتصادية، بل السياسية، للتطورات الديمغرافية..
إن شيخوخة السكان الفرنسيين،أصبحت أمراً لا مفر منه،ولها بعض العواقب المؤسفة،لذا اصبح رفع سن التقاعد ضرورة مطلقة، ولا يمكن دعم هذا الإجراء إلا عندما يكون مصحوبا بجهد غير مسبوق لتوفير التدريب المستمر للموظفين طوال حياتهم المهنية. إلا أن الوزن الانتخابي المرتفع للفئات العمرية يشكل عائقاً أمام هذه الإصلاحات. ولابد أن تعمل الحوافز المالية القوية، الأفضل من تحديد السن، على تشجيع كبار السن على المشاركة في قوة العمل لأطول فترة ممكنة.
ولكن هناك جوانب أخرى للمشكلة، ففي المجتمعات المتعددة الثقافات، يكون للاختلافات بين معدلات النمو السكاني للمجتمعات المختلفة آثار تراكمية، والتي تكتسب عاجلاً أم آجلاً أهمية سياسية. إن الدول القومية، التي تشكلت بشكل مصطنع إلى حد ما، على مدى القرنين الماضيين، من خلال اجتماع مجموعات غير متجانسة، تختلف في الدين أو العرق أو الثقافة، كانت لهذا السبب مسرحا لاشتباكات عنيفة، أدت في بعض الأحيان إلى تفكك هذه الدول وتغيرالتكوينات الاجتماعية. وبشكل عام، تتمكن المجموعات المسيطر عليها، والتي كانت في البداية من الأقلية، من التغلب على أسيادها السابقين من حيث العدد؛ ما لم يشرعوا، خوفًا من الإطاحة بهم، الى تبني سياسات قمعية. والأمثلة كثيرة.
وبالعودة إلى الماضي، يمكننا أيضًا أن نستشهد بحالة أيرلندا إذ انفصلت أيرلندا عن التاج البريطاني، تحت ضغط سياسي وديموغرافي من الكاثوليك الأيرلنديين، الذين سئموا العثور على خلاصهم في الهجرة إلى الأمريكتين.وهنالك أيضا البوسنة والهرسك، التي كانت مهد أجداد الشعب الصربي، وبعد تفكك الاتحاد اليوغوسلافي،أدى رفض الأقلية الصربية للتعايش إلى ثلاث سنوات من الحرب القاتلة.ولا يقتصر الأمر على الاتحاد السوفييتي الذي يُعزى تفككه جزئياً إلى التقدم السريع للغاية للسكان غير الأصليين من القوقاز والشرق الأقصى. وهذه هي الأطروحة التي تدعمها هيلين كارير دانكوس في احد كتبها التاريخية. وقد نكون مهتمين أيضاً بالتاريخ الحافل بالأحداث للاتحاد الهندي، والأقرب إلينا، تاريخ بلجيكا أو كندا، الدول ذات القوميتين حيث لعبت الديموغرافيا دوراً مهماً.
وفي العقود المقبلة، من المتوقع أن يتغير التكوين العرقي للولايات المتحدة نفسها بشكل كبير، حيث سيصبح أحفاد المهاجرين غير الأوروبيين الأغلبية. ومن الصعب للغاية إجراء مثل هذا التشخيص بالنسبة لفرنسا، لأن التشريع يعارض إنشاء إحصاءات حول الأصل العرقي أو القومي للأفراد المدرجين في القائمة.
وتلعب الديموغرافيا دورًا أيضًا في الجغرافيا السياسية. إن وزن الأمم يقاس بالثروة التي تستطيع إنتاجها. إلا أن هذا الحجم يجمع بين عدد الأفراد والثروة التي ينتجها كل منهم من خلال عمله وإبداعه. وعلى مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية، تقدم طرفا المعادلة بسرعة كبيرة في بلدان العالم الثالث، مما أدى إلى تغيير جذري في التسلسل الهرمي للقوى، ومهد الطريق للعالم المتعدد الأقطاب الذي نعرفه اليوم ومسألة الهيمنة الغربية.
خذ بعين الاعتبار الدول العشر الأولى مرتبة حسب ناتجها المحلي الإجمالي (بالدولار الثابت، المعدل حسب تقلبات أسعار الصرف) في عام 1990 على سبيل المثال حيث كانت الولايات المتحدة في المقدمة، تليها اليابان وروسيا وألمانيا. وتحتل إيطاليا وفرنسا المركزين الخامس والسادس على التوالي. وتأتي الصين في المركز الثامن. وبعد ما يزيد قليلاً عن عقدين من الزمن، تغير المشهد بالكامل. وكانت الصين ستحل محل الولايات المتحدة في قمة الدول العشر الأوائل لعام 2022 (حتى لو ظلت في المركز الثاني بالدولار الحالي). كما دخلت إندونيسيا، وطردت إيطاليا. وهبطت فرنسا إلى المركز الأخير، تليها تركيا مباشرة. وأخيرا، نرى أن البلدان التي تقدمت في التسلسل الهرمي للأمم (الصين والهند وإندونيسيا والبرازيل وتركيا وغيرها) هي على وجه التحديد تلك التي جمعت بين الديناميكية الديموغرافية والديناميكية الاقتصادية. ولا تخلو هذه التغيرات من عواقب على التوازنات الدولية.وظلت أفريقيا متخلفة في هذا الترتيب، لكن عدد سكان أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وحدها قد يتضاعف ثلاث مرات بين عام 2020 ونهاية القرن، ليرتفع من مليار إلى ثلاثة مليارات نسمة، وهو ما يشكل تحديا أكبر. والأخطر على أوروبا هو ضغط الهجرة وستستمر الاضطرابات السياسية وعدم الكفاءة الاقتصادية. فهل ينبغي لنا، من الآن وحتى الشتاء الديموغرافي العالمي، أن نتوقع انفجاراً للصراعات المرتبطة بالانحباس الحراري العالمي؟
أخيرا، دعونا نضع أنفسنا على مستوى كوكب الأرض ككل، متجاهلين المنافسات التي تؤلب الناس ضد بعضهم البعض إذ يقدر عدد سكان العالم بنحو 1.6 مليار نسمة في عام 1900، وكان من المتوقع أن يرتفع إلى ثمانية مليارات نسمة في عام 2023. ومن المتوقع أن يصل الرقم إلى عشرة مليارات نسمة في عام 2050. ولابد أن نذكر بأن هذا الانفجار الديموغرافي يؤدي إلى تعقيد جهود مكافحة الانحباس الحراري العالمي بشكل كبير. وإذا كانت البلدان التي ينمو سكانها بشكل أسرع هي أيضاً تلك التي تسعى إلى اللحاق بمستويات معيشة الغربيين، وبالتالي تطمح إلى تنمية سريعة، فإن انبعاثات الغازات الدفيئة لديها لا يمكن إلا أن تتزايد. وليس من المؤكد أن جهود الحفاظ على الطاقة التي تبذلها البلدان المتقدمة ستكون كافية لتعويضها.
لقد أكملت جميع البلدان، أو جميعها تقريبا، تحولها الديموغرافي، وبدأ معدل المواليد في الانخفاض، وهو ما يعكس انخفاض معدل الوفيات الذي سبقه. وستشهد العديد من المناطق انخفاضًا في عدد سكانها في المستقبل مايمكن أن يؤثر على سكان العالم بأسره وسوف يتنفس كوكبنا الصعداء.ولكن كيف سيكون حال العالم بعد هذا الانحسار المرحب به؟ نحن لا نجرؤ على التفكير في الأمر.
ماذا يمكن أن نتعلم من هذه النتائج؟ من المؤكد أن "الناس يولدون ويبقون أحراراً ومتساوين في الحقوق". وحتى لو قمنا بتجاهل ذلك، فمن الخطأ أن نتجاهل هذه الحقيقة الأنثروبولوجية. إن سياساتنا العامة ومواقفنا على الساحة الدولية يجب أن تأخذ في الاعتبار الديموغرافيا، لأن لها الكلمة الأخيرة دائما تقريبا.