كرم نعمة
لا يوجد شغف مثل أن تفكر بمضمون كتاب ما على مدار سنوات وتجده أمامك، وكأن المؤلف الذي لا تعرفه ولم تقرأ له من قبل كان يشترك معك في التفكير بوضع متن كتابه.
ذلك الشغف والحماس شعرت به وأنا أقرأ عرضاً عن الكتاب الذي كنت أبحث عنه من دون أن أعرف عنوانه!
فعالم الأعصاب تشاران رانجاناث في كتابه الجديد يشاركنا التفكير بصوت عال "لماذا نتذكر: إطلاق العنان لقوة الذاكرة للتمسك بما يهم"، ومع أنني لم أقرأ الكتاب الذي صدر قبل أسابيع، إلا أكثر من عشرة عروض مطولة لمتنه نشرتها وسائل الإعلام زادت من الشغف إليه وقربتني أكثر إلى مضمونه الذي يجيب على أسئلة طالما وضعتها أمام نفسي على مدار عقود، عندما يأخذنا عالم الأعصاب رانجاناث في استكشاف رائع لكيفية تعاملنا مع عالم اليوم بناءً على تذكرنا للماضي. فيقول إن استدعاء الذاكرة يشبه الضغط على زر التشغيل والتسجيل معا.
يعد رانجاناث واحداً من أبرز علماء الأعصاب فهو مدير برنامج الذاكرة واللدونة وأستاذ علم النفس وعلم الأعصاب في جامعة كاليفورنيا. وهو أيضا المدير المؤسس لمختبر "الذاكرة الديناميكية" وأطلق عليه هذا الاسم لأنه يعتقد أن الذاكرة "هي العملية التي تتغير بها أدمغتنا بمرور الوقت".
يمكن للذاكرة أن تثير الفرح، عند تذكر سعادة الماضي، أو الألم الذي يستحيل أحيانا تجاهله، عندما تطغى علينا الصدمة. نحب أن نفكر في أنفسنا كمخلوقات نعيش كل لحظة من جديد.
ومع ذلك، لا يمكننا الاستجابة لظروفنا إلا بناءً على ذكرياتنا عن أحداث مماثلة في الماضي. الذاكرة هي كتاب اللعب الذي يوفر قواعد للعيش بها. وكما يكشف تشاران رانجاناث، يجب أن تكون الذاكرة مرنة وقابلة للتكيف لتخدمنا بشكل أفضل، وهو ما يجعلها معقدة للغاية، ويصعب فهمها.
ويقول إن الذاكرة ليست ثابتة أبداً فدقة الذاكرة، والطرق التي يمكن ويجب أن تتأثر بها، تمكننا من البقاء كجنس بشري. ولكن هذا يمكن أن يسبب أيضا مشاكل عندما يتعلق الأمر بإدارة محاكمنا القانونية أو كتابة تاريخنا الشخصي.
ما يهم القارئ المهموم بذاكرته وذكرياته، في هذا الكتاب هو الفصل الذي يبحث في مقدار الذاكرة التي تنبع من الخيال، فالذكريات ليست كاذبة ولا صحيحة إنما يتم بناؤها في الوقت الحالي مع التحيزات والدوافع والإشارات التي حولنا، كما تعكس أجزاء مما حدث بالفعل في الماضي. ولكن هذا لا يعني، بالنسبة إلى مؤلف كتاب "لماذا نتذكر: إطلاق العنان لقوة الذاكرة للتمسك بما يهم" أن تلك الذاكرة غير موثوقة على الإطلاق، فالذاكرة ديناميكية وهي قوة تشكيل نشطة.
يصف رانجاناث استدعاء الذاكرة بمسجل الكاسيت المنقرض عندما يتم الضغط على زر التشغيل والتسجيل معاً، وهذه هي الطريقة التي يمكن أن تتأثر بها الذكريات من خلال طريقة استدعائها.
يمكن وفق تلك المفاهيم العلمية الدقيقة أن نتعامل أيضا مع مخاطر الذاكرة الجمعية الكاذبة لصناعة الرأي العام، فالمدونة السردية الكاذبة لأحداث ما جرى يمكن أن تكون أداة سامة للمجتمع عندما تتحول الأكاذيب إلى جزء حيوي من الذاكرة الحقيقة، وهذا ما يحدث اليوم في الحروب السياسية والطائفية والعرقية.
في النهاية لا يضع رانجاناث إجابة بسيطة للسؤال الذي أطلقه في بداية كتابه: لماذا نتذكر؟ الأمر الذي يدفعني إلى حث دور النشر العربية إلى تقديم ترجمة مفيدة لهذا الكتاب، فنحن اليوم بأمس الحاجة إلى معرفة أنفسنا عندما نفهم طبيعة عمل ذاكرتنا السياسية والاجتماعية والثقافية، كما أننا بحاجة إلى مقاومة النسيان عندما يتعلق الأمر بمصير ذاكرة أمة ومجتمعات يراد لها أن تفقد ذاكرتها بشكل متعمد وبغيض.