TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > اليقين، ما اليقين؟

اليقين، ما اليقين؟

نشر في: 3 يونيو, 2024: 12:00 ص

عمار أبو رغيف

القسم الاول
قد يكون غريباً علی كثيرٍ من القراء الخوضُ في البحث عن هوية «اليقين»، وبذل الجهد بغية تعريف هذا المفهوم، الذي يبدو واضحاً بالبداهة؛ غير أنّ الأسئلة، التي طُرحت حول «اليقين»، علی طول تاريخ المعرفة الإنسانية تمثل إشكاليات جدية، تمس هذه الظاهرة الحاضرة الغائبة، تحـضر بوضوح في حياة الآدميين الیومية، ويدركها الموقف الطبيعي للعقل الإنساني، لكنها تستعصي علی الحضور، أو يتعذر إثبات جدواها معرفياً، في حقولٍ شتی من حقول المعرفة الإنسانية، في ضوء اتجاهاتٍ في المعرفة الإنسانية علی تنوعها وتنوع فضاءاتها.
بلی؛ رواية اليقين يتطلب الأخذ بها دراية، ولا يُباح الركون إليها في العلوم عامةً، الا بالتمسك بعروةٍ وثقی، وقاعدة بينّة. إدعاء اليقين سهل المؤونة في فضاء الجدل، لكن اليقين في دائرة البحث العلمي لا تُتاح له فرصة الخضوع للتمحيص، ما لم يحمل معه دليله وحجته، التي تخضع هي بدورها الی التمحيص والنقاش، ريثما يُتاح قبولها من قبل الجماعة العلمية.. أما يقين السالكين من العرفاء والصوفية، ويقين العُبّاد فيما بينهم وبين ربّهم، فهذا شأنٌ آخر، آمل أن تُتاح لنا فرصة مناسبة في بحثنا الراهن للحديث حول ذلك.
مهما كان شأن اليقين من الأهمية، ومهما كان حجم الإشكاليات، التي اُثيرت حول ظاهرة اليقين؛ فاليقين من مقولة الكيف النفساني ـ علی حد تعبير الأوائل ـ أي أن ظاهرة اليقين ظاهرة نفسية، تصنف فلسفياً علی عالم «الذات»، التي تقابل عالم «الموضوع». نعم؛ اليقين والاعتقاد والشك والاحتمال ما هي الا حالات المتيقن والمعتقد الذاتية، التي تقبع في عالم النفس، أو قل ان تقررها الوجودي هو عالم «الذهن»، علی اختلاف المسالك في تفسير طبيعة الذهن ومدركاته، سواء أذهبت دروب التحليل الی القول بمادية الذهن وعملياته ومدركاته، أم ذهبت الی مذهبٍ لا مادي «روحي»، في تفسير الذهن وعملياته ومدركاته، أم أي شكل آخر من اشكال التفسير. أجل؛ تبقی ظاهرة «اليقين» من معطيات عالم «الذات». لكن سؤال هذه الفقرة الرئيـسي هو عن تعريفٍ لظاهرة «اليقين»، وعمّا يحوم حولها من أسئلةٍ، تحولت الی مسائل يبحث عنها الحكماء والعرفاء، وعلماء الكلام «اللاهوت»، وعلماء الفقه واصول استنباطه:
قبل أن نتحدث عن تعريفٍ فني لظاهرة «اليقين» نحاول مقاربة فهم هذه الظاهرة من زاوية وجودية، وعلی قاعدة الدلالة اللغوية في تداول واستعمال كلمة «اليقين». أظن أن دلالة اليقين لدينا مشتركة ـ علی اختلاف الاجتهادات في فهم وتفسير هذه الظاهرة ـ ، وتشير الكلمة الی الحالة الوجدانية، التي نمتلكنا في تصديقنا التام بالعلاقة بين الظواهر والمفاهيم، أو تصديقنا التام بسلب هذه العلاقة ونفيها.
متی وأين يوجد اليقين؟
اليقين من جنس الأحكام، التي نُطلقها علی عالم الوجود.
يحصل اليقين حينما تكون لدينا جملة تامة، مكتملة الأركان: «مبتدأ وخبر»، أو قل «مسند ومسند إليه». أي أنّ هناك قضية منطقية يُراد إثبات النسبة والربط بين محمولها وموضوعها، أو مقدمها وتاليها، أو يُراد نفي النسبة وسلب الربط بين طرفي القضية، هذا أولاً؛ وثانياً حينما يكون الإثبات والنفي لا يبقي قيمةً منظورةً لاحتمال خلاف النسبة أو خلاف نفيها. أو يكون اليقين بالإثبات أو النفي مقترناً باستحالة الخلاف. من هنا يكون الارتباط والنسبة بين الطرفين مصب الإثبات والنفي. من هنا قال الأوائل أنّ التصديق ينصب علی ثبوت النسبة أو نفيها بين موضوعٍ ومحمول، أي أنّه ينصب علی القضايا.
من هنا يتضح أن لدينا يقيناً واعتقاداً جازماً بالقضايا، وهو اليقين المركب (من يقين بالنسبة بين المحمول والموضوع في القضايا، ويقين باستحالة أن تكون العلاقة بين طرفي القضايا علی غير ما هي عليه في اليقين بالنسبة بين المحمول والموضوع في اليقين الأول).
وهذا اللون من اليقين يُوسم باليقين المنطقي. ويتضح أيضاً في ضوء ما تقدّم أن هناك يقيناً بالنسبة بين المحمول والموضوع لا يقترن مع اليقين باستحالة أن تكون النسبة بين المحمول والموضوع علی غير ما هي عليه. قد يُطلق علی اللون الثاني من اليقين مصطلح «الاطمئنان»، أو اليقين العادي. لكن استاذنا الشهيد الصدر أطلق مصطلح «اليقين الذاتي» علی اليقين الحاصل، جراء الاستقراء، وتراكم الاحتمالات الی الحد الذي يلغي فيه العقل احتمال خلاف النسبة، حيث يبلغ حداً من الصغر يقرب الی الصغر. وفقاً لنظريته في «الأسس المنطقية للاستقراء».
وهنا لابد من التأكيد علی المفهوم من «الذاتي» في مصطلح السيد الصدر، إذ لم يرد من «اليقين الذاتي» اليقين القائم علی النزعة السايكولوجية للمتيقن، علی غرار قطع القطّاع لدی علماء اصول الفقه المتأخرين، ولم يعن من الذاتي ما يقابل الموضوعي والواقعي، فيما يُصطلح لدی حكماء نظرية المعرفة. بل أراد معنیً آخر، سنقف عنده عبر متابعتنا الراهنة، حيث نتناول اشكالية السايكولوجيا في المعرفة الإنسانية عامة، عبر تنويع أشكال اليقين.
أجل؛ ان درجات التصديق والاعتقاد بقضايا المعرفة العلمية سواء أكانت يقيناً جازماً لا يحتمل الخلاف ولا يسمح به، أم كانت يقيناً واعتقاداً عُرفياً، أم كانت احتمالاً راجحاً، أو مرجوحاً، تقبع في عالم الأذهان، وهي حالات المعتقد الذاتية، تحققها الوجودي هو عالم الذات الإنسانية. والسؤال الشامخ هنا هو: كيف تدل هذه الحالات علی عالم الموضوعات المتيقنة (سواء أكانت من جنس الوجود الذهني، أم كانت من عالم الوجود الخارجي الموضوعي)؟ متی نتيقن أو نحتمل التطابق بين عالم الأذهان وعالم الأعيان؟ وما هو المسوغ لسلامة وصحة أشكال اليقين وسائر درجات الاعتقاد؟
وهناك إشكالية أشمل وأخطر، وهي: هل يُتاح الشك أو الاحتمال، دون يقين؟ هل من المعقول الذهاب الی اللاأدرية، دون دراية ويقين؟ هل يُعقل ان لا يدري مَن يدّعي اللاأدرية؟ وهل من المعقول ان نشك بالشك… الی ما لا نهاية؟ هل تبدأ رحلة المعرفة الإنسانية (في ضوء الموقفين الطبيعي والفلسفي) من الشك الی اليقين، أم أنها تبدأ من اليقين الی الشك؟ هل نبدأ من اليقين الجازم الی الاحتمال المعقول، أو تساوي الطرفين (الشك)، أم نبدأ من الاحتمال المعقول الی اليقين والاطمئنان؟
هذه إشكاليات وأسئلة من صميم نظرية المعرفة، وفلسفة العلم، ولها وشائج قربی ببحوث النفس «السايكولوجيا»، تتمحور حول «اليقين»، أو قل يتمحور حولها اليقين! فهل من تعريفٍ لليقين يمكن الأخذ به، بعد الاستعراض المكثف المتقدم؟
قلنا أن اليقين من زاوية وجودية يُصنّف علی عالم معطيات النفس، وهو موضوع للدرس السايكولوجي، أو يُصنّف ـ حسب لغة الأوائل من الحكماء ـ علی الوجود الذهني، مقابل الوجود العيني. غير أن التعريف الفني للظواهر المحسوسة بالذات، أي الظواهر الذهنية والنفسية عملٌ عسير جداً. لكن الفهم المشترك عبر الدلالات اللغوية، التي تتبادلها وتتواصل عبرها الجماعات اللغوية، يُتاح من خلال ظهور الدلالات اللغوية، الذي يستند الی الاتفاق بين أبناء الجماعة اللغوية.
يتيسر معنی كلمة «اليقين» عبر الفهم المشترك لدلالة الكلمة في سياقاتها اللغوية المتنوعة. علی ان نؤكد حقيقةً في غایة الأهمية: أن العلم الوجداني والشعور الداخلي لا سبيل لمراجعته علمياً، وفحص ثبوته وموضوعيته، الا عبر الظواهر السلوكية الإنسانية، التي يمكن رصدها و ملاحظتها. واللغة البـشرية أرقی وأوضح مظاهر السلوك الإنساني، التي تمثل الأداة الرئيسية في الكشف عن المعطيات الذاتية وإثبات موضوعيتها، عبر اتفاق الجماعات اللغوية علی الدلالات المرتبطة بتلك المعطيات. إذ أن موضوعية الظاهرة تكتشفها من خلال امكانية الاتفاق علی الأشارة إليها، عبر اللغة.
الاحساس الذاتي بـ «اليقين»، بوصفه ظاهرة نفسية، يمكن التحقق من ثبوته وموضوعيته، من خلال اللغة التي يتواطئ الاتفاق علی دلالاتها. من قبل عامة أبناء الجماعة اللغوية. إذ الاتفاق اللغوي علی الدلالات النفسية يعكس الاحساس المشترك وقيامه في الحياة العامة لأهل اللغة. وموضوعية الظاهرة تعني امكانية فهم ملاحظة الظاهرة، من قبل عامة أبناء الجماعة اللغوية. وملاحظة الظاهرة المشتركة من قبل عامة أبناء الجماعة اللغوية هو مفتاح الاتفاق علی إشارة لغوية تدل علی المفهوم المشترك لهذه الظاهرة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. تقي الحسني

    منذ 4 شهور

    لله درك سيدنا, لازلت تكشف الضباب عن اشكل المسائل العلمية باسلوب متين ولفظ جزل يشد القارئ ويجذب الباحث الى ميدان المعرفة.

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram