طالب عبد العزيز
في العام 1923م يأتي البصرة عالم كان قد ولد بالقرب من مكتبة تمبكتو ، بأقصى موريتانيا، اسمه محمد أمين بن حبيب الحسني الشنقيطي، فقيه، ومجاهد(شوهد وهو يحمل بندقيةً في معركة الشعيبة لمقاتلة الانجليز) أخذ العلم عن علماء بلدته (شنقيط) التي ولد فيها سنة 1293هـ/1876م كان قبل ذلك قد انتقل إلى مصر، والتقى بالشيخ محمد عبده، ثم رحل إلى الحجاز، فأخذ شيئاً عن علماء المدينة ومكة، وسافر إلى الهند، وعمان، والبحرين، والأحساء، قبل أنْ يستقر المقام به في بلدة الزبير، بناءً على طلب الشيخ مزعل السعدون، إمام المسجد الذي مازال يحمل اسمه. الشنقيطي هو الذي أُخذتْ عنه فكرة بناء مدرسة النجاة الاهلية.
لا شكَّ أنَّ الشيخ الشنقيطي كان قد حمل معه ماحمل من بقايا مكتبة تمبكتو الاسطورية ذات الـ 700.000 كتاب قبل أن تأتيه فكرة مدرسة النجاة أو (مدرسة الشنقيطي) هكذا كانت البعض يسميها، هي مدرسة ابتدائية، دينية، أهلية، للبنين، بنيت بأموال المتبرعين، من وجهاء وأثرياء بليدة الزبير، يتعلم فيها وعلى وفق المنهج السلَفي أبناء المدينة، الذين ليس بينهم من لا يتمذهب على مذهب أحمد بن حنبل، بحسب الشيخ فصيح بن صبغة الله الحيدري في تقريره المعد سنة 1286 ه . لكن، وبعد وفاة كبار المتبرعين اشتدت الحاجة لتمويلها، لذا أفتى الشيوخ محمد العسافي، وعبد الوهاب الفضلي، ومحمد السند، وإبراهيم المبيّض وعبد الله الرابح، بجواز صرف أموال الزكاة، لتسديد نفقات المدرسة، بوصفها من أعمال مصرف «في سبيل الله» وصدرت فتوى أخرى بتوقيع عبد الله الحمود، وعبد المحسن البابطين ومحمد الشهوان. وفي ديباجة إنشاء المدرسة غير المصرّح به إنها جاءت:«ردّاً على مدرسة الزبير الرسمية التي أنشأها الإنجليز عام ۱۳۳۸هـ - 1919 م التي لا تعير الدين واللغة العربية أيَّ أهمية». ولأنه صاحب الفكرة فقد اِقترحَ الشنقيطي أن يكون اسم المدرسة «صدّاءْ» مستشهداً ببيت من الشعر «ما كلُ ماءٍ كصدّاءٍ لوارِدهِ - نعم، ولا كلُّ نبتٍ فهو سعدان». لكنَّ فريقاً آخر من المساهمين اِقترح أن يكون الاسم "مدرسة النجاة» فكانَ.
واضح أنَّ المدرسة كانت جزءاً من أنشطة (جمعية النجاة الأهلية) التي تاسست سنة 1920 وأنَّ تنظيماً اسلامياً كان وراء ذلك.يقول تحسين علي(متصرف البصرة من سنة 1933-1938 ) في مذكراته: “عُرضت عليَّ قضية مدرسة النجاة الأهلية في الزبير، وخلاصتها، بأنَّها تروج للمنهج الوهّابي”. يذكر محمد العسافي في كتابه (مساجد الزبير) بأنَّ بناء المدرسة تم في 15 محرم سنة 1341 هـ، وأَّنَّ الشنقيطي نصّبَ مديراً فيها، وأنَّ أرضها موقوفة باسم فاطمة الدهيش، قد اِستأجرها أحمد إبراهيم المشاري، متبرعاً بخمسة آلاف روبية، ثم تبيّن لمديرها بأنَّ الأرض غير كافية للمدرسة، فتبرعت منيرة ابنة الشيخ عبد اللطيف بن محمد العون بقطعة أرض كبيرة، وأنَّه سافر إلى الهند، لجمع التبرعات من الجالية العربية هناك، فجمع 14.000 ربية، وجمع مبلغاً آخر من أهالي الزبير أيضاً، كما تبرّع عبد العزيز آل إبراهيم بمحتويات قصره، في الشعيبة، من أبواب، وشبابيك، وزخارف، وأخشاب كان قد استوردها من الهند.
لم يكتف معلموها بتدريس العلوم الإسلامية، إنما استحدثوا درساً سميَ(مسك الدفاتر) وهو قريب من علم (المحاسبة) اليوم، وكذلك الرياضيات والإنكليزية، حتى ليبدو التعليم فيها قد فتح باباً يتعلم فيه ابناء المساهمين (مسك دفاتر) تجارة آبائهم. وعن علومها وذكاء الطلبة فيها يقول معروف الرصافي، الذي عمل مفتشاً عاماً لمدراس وزارة المعارف العراقية آنذاك:” ليست مدرسة ابتدائية بل هي مدرسة جامعية”… ويصف الكاتب والمترجم نجيب المانع مستوى التعليم فيها فيقول: “كنت أصاحب الصبيان الذين درسوا الإبتدائية في مدرسة النجاة الأهلية في الزبير، وهي ابتدائية بالاسم فقط، أما المواد التي تدرس فيها فهي تتجاوز أعمار الصبية بسنين كثيرة…كانوا يدرسون أدق قضايا النحو العربي، ويتبحرون في الشعر وأوزانه وتفعيلاته، ويمارسون المحاسبة التجارية ويتعلمون التاريخ الذي كان مستواه يقرب من المستوى الجامعي، وكانوا يدرسون الفقه والشريعة وتفسير القرآن الكريم”. كان عبد الرحمن أبو الخيل وزير العمل السعودي أحد طلابها، وكذلك الشاعر محمود البريكان، الذي كان والده أحد المساهمين في بنائها.
يبدو أنَّ الشنقيطي كان تنويرياً أكثر من الآباء الزبيريين المؤسسين، فلم يشأ التوقف عند تدريس العلوم الدينية والفقهية، وعلى الرغم من وجود تيار سلفي متشدد، في مجلس إدارة المدرسة رافض لفكرة التوسعة في التدريس إلا أنه اقترح تأسيس مدرسة مجاورة لتعليم البنات، كحق معلوم لهنَّ بالتعليم، لكنه جوبه باعتراض شديد، بل واعتدى عليه بعضُهم بالضرب. بدعوى أنَّ دروس الجغرافيا وأفكار مثل كروية الارض ومنشأ المطر من البخار تعتبر مروقاً عن الدين، وخروجاً على الملة.
ظلت المدرسة تؤدي خدماتها طوال الحكمين الملكي والجمهوري حتى منتصف السبعينات من القرن الماضي على الرغم من الصعوبات المالية التي واجهتها. في 13 آب سنة 1974م صدر أمر حكومي رقم 43693 بتأميم المدارس الأهلية العراقية، بناءً على قرار مجلس قيادة الثورة المؤرخ 9 أيار سنة 1974م فتحوّلت مدرسة النجاة الاهلية إلى مدرسة حكومية. ونُفذ التأميم على ملحقاتها ما عدا جمعية النجاة الأهلية التي لم تُؤمّم.
كانت كتب المكتبة قد نقلت من أرففها في الزبير الى مبنى آخرَ في البصرة القديمة، كان ملحقاً بأعمال الجمعية، ويشغله أحدُ الادباء المقربين من الحكومة، بعد أنْ ثبت عند الحكومة بانَّها (الجمعية والمكتبة)جزءاً من تنظيم (الاخوان المسلمين). في الربع الاول من التسعينات وفي فترة رئاسة الشاعر عبد الامير معلة لإتحاد الادباء والكتاب/ المركز العام/ بغداد تم تحميل الكتب- التي أتت حشرةُ الارضة على كثير منها- بثلاث سيارات حمل، نوع سكانيا (قّلابي) الى جهة حكومية، لعلها المخابرات. كنتُ، وبعيداً عن أعين الرقباء قد تمكنت من سرقة بعضها بينها كتاب الحيوان للجاحظ، وكتاب تزيين الاسواق ومحاسن العشاق، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ ايضاً، وكتاب (المحلّى) لإبن حزم، والجزء الثامن من تاريخ الطبري، وكراس صغير عن مؤتمر النجف.