ستار كاووش
وسط مدينة لاهاي وفي قاعة جميلة قرب محطة القطار الرئيسية، إستضافت رابطة المرأة العراقية في هولندا، عرضاً مسرحياً رائعاً بطريقة دراما الممثل الواحد أو (المونودراما) أعدته وقدمته الكاتبة سلوى جراح من روايتها الجديدة (حكاية لا تحتاج الى عنوان)، حيث قامت بالإعداد والاخراج والتمثيل. وصلتُ مبكراً الى القاعة التي إمتلأت بجمهور مثقف ورائع، جاء بشكل خاص لمشاهدة ما ستقوله هذه المبدعة صاحبة المواهب المتعددة، والتي لا تتوقف عن صنع الجمال ولا تهدأ عندها روح البحث. إختَلَتْ سلوى بنفسها قرب طاولة بعيدة خلف الجمهور، كي تتهيأ للعرض، ولم تمض بضع دقائق حتى شَقَّتْ طريقها بين جانبي الجمهور ومَضَتْ نحو المنصة، لتقص علينا حكايتها التي تتحدث عن امرأتين، واحدة عراقية وأخرى فلسطينية، تتعرفان على بعضهما بالمصادفة وتربطهما علاقة صداقة ومحبة وطيدة، حيث تعملان في ذات الجريدة، الأولى صحفية والثانية كاتبة طابعة. تداخلت الحوارات والأصوات والأحداث بين المرأتين، كل واحدة تتحدث عن جانب من حياتها وكيف سارت بها الظروف ومضى بها الزمن. هكذا طلًّتْ علينا سلوى لتبدأ حكايتها من تلك الحديقة الصغيرة المنعزلة التي لم ينتبه لها الكثيرون، حيث تعودت الجلوس فيها مع صديقتها كل يوم اثناء إستراحة العمل. هناك في تلك الحديقة البعيدة تتداخل التفاصيل والأحداث والحوارات التي بدتْ كإنها تتحدث عن حياتنا كلنا، عن البشر عامة، عن الروح الانسانية التي تتنازعها مشاعر متعددة. في هذا العرض تنساب الأحداث وتتداخل المحبة مع الخيانة، الموتُ مع المرض، الإنسجام مع التردد، القوة مع القبول بالأمر الواقع، الحب مع الإستلاب، وبين كل هذا وذاك، تبزغ الضحية التي تنتظر أن ينصفها القدر. أعدت سلوى جراح هذا العرض وقدمته باللهجة العامية كي يصل الى المشاهد بسرعة ودون تزويقات لغوية، وقد نجحتْ بذلك منذ أول لحظة وكسرت الجدار الذي يفصلها عن الجمهور حين أشارت ببعض الإيماءات وأثارتْ بعض التساؤلات مع بعض الحضور، ووصل ذلك الى ذروته حين أخرجت جواز سفرها ومدَّته نحو واحدٍ من المشاهدين. هكذا عشنا الإنتقالات بين المرأتين من خلال اللهجتين العراقية والفلسطينية اللتان تجيدهما سلوى بشكل رائع كونها فلسطينية المولد وعراقية النشأة، وكما تقول هي (لدي أُمّان، الأولى هي فلسطين التي ولدتني، والثانية هي العراق التي ربتني).
ساعة كاملة شَدَّتنا سلوى جراح في هذا العرض الذي أثبتتْ فيه انها ممثلة بارعة وذات صوت جميل أيضاً. وهي لا تحتاج الى الكثير من الأدوات لتقديم عرض مؤثر كهذا، والذي ينتمي الى تيار (المسرح الفقير) الذي يقتصد أو يتخلى عن الكثير من المستلزمات والأدوات المعروفة في المسرح مثل الديكور والموسيقى والاضاءة والمكياج والأزياء، ويكون قوامه الأساسي هو الممثل أو مقدم العرض. هكذا ظهرت سلوى أمامنا، ولم يكن معها سوى ضوء القاعة البسيط وقطعة قماش صغيرة استعملتها كشال وحقيبة يد نسائية ودفتر. ويتوسط الصالة التي قدمت فيها العرض منصة رمزية صغيرة -ساعدَ في تجهيزها، المبدع فارس الماشطة- تشبه مايستعمله الرسامون لجلوس الموديل، وقد استخدمتها كمكان للجلوس أو الدوران حولها أو حتى الإتكاء عليها عند النحيب أو إستعادة الذكريات. ورغم هذه الأدوات البسيطة، قدمت سلوى جراح عملاً عميقاً ومؤثراً، وكان الجمهور صاغياً بصمت جليل ومهيب، حيث سادَ السكون المذهل أثناء متابعة كل حركة تقوم بها وكل كلمة تقولها وكل صرخة تطلقها، لتمضي هي وتسترسل بتناغم ممزوج بالرفعة وسط هذا الإنتباه الرهيف. الجديد في هذه التجربة هو إن سلوى الروائية، هي ذاتها من قدمت العرض ومثلته، وهذه أول مرة نشاهد فيها روائية تُقدم عملها بهذه الطريقة على المسرح.
بعد نهاية العرض علا التصفيق وأصوات الاعجاب، مع باقات الورد لمبدعتنا الرائعة، وطرحت بعض الأسئلة والآراء الجميلة حول العرض، حيث وقفتْ سلوى الفلسطينية العراقية تُجيب وهنا وتُشير هناك وتفاعلت مع الناس قدر تفاعلهم معها، وإقتربَ منها الحاضرون وكإنهم يعرفونها منذ الأزل، ذلك لأن حكايتها التي قدمتها تُلامس قلوب كل الناس، في أي زمان ومكان.
وقفتُ أصفق لهذه المرأة الجميلة والمبدعة وأنظرُ الى محبة الناس، ووسط كل ذلك لمحتُ شابة عراقية جميلة تنبثق من بين الجمهور وتمضي نحو سلوى بكل حب وإعجاب وهي تتحدث بفخر عن العرض، وحين همَّت هذه الشابة بالذهاب، إستوقفتها سلوى ومدَّتْ نحوها الحقيبة النسائية الجميلة التي قدمت بها العرض، كهدية لها، فيالها من مبادرة رائعة وكرم جمالي يليق بنهاية عرض كهذا. لم تستطع الفتاة أن تُكابد فرحتها وهي تمسك الحقيبة وتذهب برشاقة وكإنها تملك جناحين، فيما مضينا نحن كل واحد في طريق عودته، يجمعنا شيء واحد هو سلوى جراح وهذه الأمسية المذهلة التي قدمتها، والتي ستبقى دائماً في الذاكرة.
جميع التعليقات 6
لينه جراح
منذ 6 شهور
حقيقي انها متعدده المواهب وكانت الفكره والعرض جميل ورائع شاهدناه في عمان- الاردن وشكزا للفنان المبدع ستار كاووش على هذا العرض والتقديم الجميل وكاننا كنا معكم
سامر ابراهيم احمد
منذ 6 شهور
سلوى جراح التي اعرفها منذ ايام زمالتنا في جامعة الحكمة قبل اكثر من سبعة وخمسين عاما وأحمد الله على اننا ما زلنا على اتصال ببعضنا حتى يومنا هذا. عرفتها بتعدد مواهبها من الصوت الشجي في غنائها إلى كتاباتها التي تشد القارئ اليها شداً.
مؤيد الحيدري
منذ 6 شهور
مقال جميل يشي بالاندهاش والامتنان الصادق بما قدمته الكاتبة والممثلة ذات الصوت العذب سلوى جراح. أحيي دأبها على العطاء وتنويع أدواتها واكتناز مواضيع واحداث قصصها ورواياتها. لكما تقديري الجراح وكاووش.، مؤيد الحيدري
صباح عفاص
منذ 6 شهور
هكذا هي سلوى جراح ، عرفتها عن قرب من سنين عديدة، تفيض مما جبلت به من جمال وحب وانسانية ومعرفة ومواهب عدة .. من يعرفها لا يقوى إللا ان يحترمها
اكرم العكيلي
منذ 6 شهور
لفنانة واديبة وكاتبة وصاحبة فكر حر وموقف نفتخر بمنجزها الثقافي والفني ومثل شجرة زيتون معطاء ونخلة شامخة اتمنى الحصول او استلام. فيديو لما قدمته سلوى الجراح. تحياتي
ماهر عثمان
منذ 6 شهور
سلوى جراح انسانة متعددة المواهب مؤمنة بقيمة الفن الأدبي والمسرحي والإذاعي وصوتها جميل حديثا وغناء ونادرا ما تجتمع هذه المواهب والقدرات الإبداعية في شخص واحد. لقد انصفها ستار بمقاله هذا.