حيدر نزار السيد سلمان
في كتابه «أفكار خطرة» يبحث إريك بركويتز في السياسة الحمائية الإعلامية التي تتبعها كلٌّ من الصين وروسيا في مواجهة أفكار الغير والتي ترى فيها أفكاراً خطرة معارضة ومناوئة لِنهج كلا النظامَين السياسيَين في هاتين الدولتين وكجزء من الرقابة على الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي ( الإنترنيت)، تعتمد ما يُعرف بسياسة الإغراق الهادفة لتشتيت اهتمامات مواطنيهما وإشغالهم بعيداً عن المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وإجهاض أيّ إرادة بالنزوع نحو كشف الحقائق وتمييز الأفكار والرؤى الحقيقية عن المزيفة والوهمية. وبحسب سياسة الإغراق تعمل آلاف المنصات الإلكترونية على نشر الأخبار والمعلومات الزائفة والكاذبة والتافهة وترويجها والتمجيد المفرط برموزها وقادتها، لتشكل جبلاً من الأوهام والأكاذيب التي تخلط أحياناً بحقائق معروفة في سبيل أخذ مداها على أوسع نطاق. واستناداً إلى بروكويتز سعت الصين إلى نشر سياسة الإغراق في الكثير من البلدان المهتمة بتطويق حرية التعبير والأفكار المغايرة وتضييق مجال التعبير، ووفقاً لذلك فإن الأنظمة التي تحاول فرض القيود على الأفكار المعارضة لها تتعلم من تجارب بعضها الآخر وتأخذ ما تراه مناسباً في الترويج لإيديولوجيتها.
إذا حاولنا إجراء مقاربة مع ما تنشره وسائل الدعاية الخاصة بالأوليغارشية الحاكمة في العراق وحلفائها من النافذين الاجتماعيين سنعثر بسهولة على آلاف المديرين والأسماء والمنصات الدعائية التي تعمل بطاقة قصوى في سياسة الإغراق، لا سيما ضمن وسائل التواصل والاتصال. وبموازاة ذلك تنشط آلاف البوتات والحسابات الإلكترونية لمهاجمة الآراء والأشخاص الناشرين لما يتعارض مع سياسة الأوليغارشية الحاكمة. وفي هذا السياق تغرق هذه المنصات والمواقع في الفيسبوك وأكس ويوتيوب وغيرها من المنصات بأخبارٍ زائفة ومضللة لِلرأي العام، معتمدةً على كميات هائلة من الأكاذيب التي تسعى بحرص شديد إلى إرباك الناس وتشويه حصولهم على المعلومات الصادقة. وعلى سبيل المثال تُحول حالات الفوضى ومسّ سيادة الدولة والسلاح المنفلت إلى حالة طبيعية تستدعيها حالة الضرورة الدولتية، كما تفرض هذه المنصات شخوصاً كرمزيات مؤثرة تبالغ في إسباغ القدسية عليها وتمجيد فاشلين وفاسدين وتقديمهم كقادة وزعماء! وطبقاً لِقوة ضخّها وما تملكه من قدرات فإنها تخلق حالةً من الشرود الذهني والإرباك (وهو هدفها) بين الناس الذين يقعون في حيرة بين الحقيقة المرئية والزيف المروّج له بإطار واسع. لعلّ الأكثر قدرة في عملية الإغراق يتمثل في تشكيل رأي عام مساند أو معارض لقضيةٍ ما وفقاً لأجندات الذين يقفون خلف هذا الإعلام، وفي مرات عديدة نجحت في هذا المسعى.
تهدف سياسة الإغراق إلى تشتيت الرأي العام وتطويقه بسياج دعائي ضخم لحجب الحقائق عنه ومحاولة حجز المعلومات الصحيحة، وفي الوقت نفسه تساهم بفاعلية بإغراق المنصات الإلكترونية الإخبارية والشخصية بنشاطات وسلوكيات رثّة وهابطة، كما هو الحال في الترويج للنزعات المذهبية والطائفية والعرقية وكذلك بأخبار الطارئات والطارئين على الفن والتواصل الاجتماعي، بل تحوّل هذه المنصات هؤلاء إلى رموز وشخصيات اجتماعية تحسب لهم أجهزة حكومية ألف حساب رغم تفاهة ما يقدمونه.
تجري عملية التشتيت الفكري والتمزيق الاجتماعي حسب سياسة الإغراق بنجاح إذا ما قيّمنا النتائج المتحصلة وهو ما تظهره الانقسامات المجتمعية حول الكثير من القضايا. ومما يثير الدهشة أن هذه السياسة نجحت في تشكيل وعي زائف عند الكثير من الناس، إذ تحولوا بفعل ذلك إلى مروجين ومدافعين عمّا تروج له الدعاية السلطوية والحزبية، كما هو الحال على سبيل المثال في تعرض بلدهم لاعتداء خارجي، إذ تتم عملية التبرير عبر إغراق وسائل التواصل بذرائع وآراء تبريرية، وكذا في الدفاع عن شخصيات سلطوية فاسدة جرى تحويلها لرموز. لكن الأخطر في ذلك يتمثل في إبعاد انتباه المواطنين عن قضايا خطيرة تهمهم وبلدهم، وتوجيه انتباههم نحو قضايا يجري اختلاقها وقت الأزمات كوسيلة ناجحة للإلهاء الشعبي، إذ ينشغل الناس بقضية أخرى تمت صناعتها في مختبرات تابعة للأوليغارشية الحاكمة، ومثل ذلك الكثير من الحالات.
بين الفينة والأخرى يتم إغراق المواطنين من خلال وسائل التواصل بسيلٍ من المنشورات ذات المحتوى المزيف أو التي تحول أعمالاً اعتيادية إلى أعمال كبرى تسجَّل كإنجازات، وفي أحيان تُخلَق انتصارات وهمية لا تحدث إلا في الإعلام. وعلى الرغم من كُتل الإغراق الهائلة فإن الكثير من الناس أصبحوا قادرين على كشف حقيقتها والتمييز بين الصادق والكاذب في الوقت الذي تصيب آخرين بالبلبلة والتشتت. لكنَّ حالة عدم الإذعان والقبول بالزيف كحقائق هي الأخرى فاعلة في عملية الدفاع عن المعلومات الصحيحة عبر فتح منافذ للاطلاع على هذه المعلومات ورصد السيء منها.