عمار أبو رغيف
« القسم الثاني «
« اليقين» لا يأتي متواطئاً، علی نحوٍ متطابق مع بعضه، بل يتنوع أبلغ ألوان التنوع، شأنه شأن ظواهر عالم الوجود، التي يوحدها الوجود، وتتعدد بتعدد تشخصاتها، تبعاً لآنات وجودها وتعيّنها، في أصقاع عالم الوجود، الذي لا تتناهی تعيّناته، ولا تستوعبه الأعداد بصحيحها وبكسورها. لكننا هنا نتابع بالمرتبة الأولی ما طُرح في الدراسات، التي يعنينا البحث في أطرافها، وهي تلك الدراسات، التي اتضح من خلال مدخل بحثنا الراهن أهميتها الملّحة لدينا.
أشرنا فيما تقدم الی ضروبٍ من «اليقين» طُرحت في أبحاث الحكماء والمناطقة وعلماء اصول الفقه، كما أشرنا الی بعض الإشكاليات الأساسية، التي قارب بعض الدارسين ـ في ضوئها ـ ظاهرة اليقين. نحاول هنا أن نتسلسل ـ وفق السياقات التاريخية للدرس المنطقي والفلسفي ـ في متابعة ضروب اليقين، وما لابسها من إضاءات ونقاشات، وأسئلة جادة.
أوضح أشكال «اليقين» هو اليقين المستند الی النزعة التلقائية، وما يصطلح عليه كثير من دارسي الفلسفة المحدثين «اليقين وفق الموقف الطبيعي للإنسان». ومن المؤكد أنه أول أشكال اليقين، التي يتعامل معها الإنسان بعفوية، ولم يخضع هذا اللون من اليقين للدرس الفلسفي الجاد، الا في مطلع القرن العـشرين، حيث أضحی إشكالية [جورج مور ـ برتراند رسل ـ فتجنشتين]، وهذا يعني أننا سنأتي الحديث عنه، ونعمد الی تمحيصه في القادم من درسنا الراهن.
أما اليقين العلمي فأول أشكاله هو اليقين المنطقي والرياضي، ومن الثابت تاريخياً أن «حكماء ما قبل سقراط»، خصوصاً طاليس وفيثاغورس اشتغلوا بالعلوم الرياضية. الی جانب اشتغال ما عُرف بـ «الحكماء السبعة» بالعلوم الطبيعية، حتی أضحی لقبهم عند «أرسطو» الطبيعيين. أطلقوا أحكامهم بشكلٍ يقيني جازم وبقطعٍ واضح، دون أدنی تردد، سواء أكانت أحكامهم من جنس المنطق والرياضة، أم كانت أحكاماً تنصب علی الطبيعة، وتكشف عن قوانينها.
لم يدعِّ أحدٌ من مؤرخي الفلسفة والعلم أنه اكتشف طبيعة اليقين، الذي خلص إليه «حكماء ما قبل سقراط»، هل هو يقين منطقي برهاني، علی غرار اليقين البرهاني الأرسطي، وقد سبقوا أرسطو في اكتشاف أساس نظرية البرهان لديه، أم هو يقين حدسي لا يستند الی منهج رياضي أو منطقي مدروس؟
لكن المؤكد هو أن فكرة اليقين المركب من الإذعان بالنسبة والتصديق بالعلاقة بين الموضوع والمحمول، والتصديق باستحالة خلافها هي فكرة طُرحت بوضوح في «منطق أرسطو»، وتابعها حكماء المدرسة الأرسطية، وهي جزء من أرث أرسطو الذي تمسك به الفلاسفة المسلمون، بما فيهم «الغزالي»، الذي هاجم الفلسفة وذهب بعيداً في «تهافت الفلاسفة»، وكان منشأً لمنازعات لم تنته بعد، بين الفلاسفة والمتكلمين، وبين اتجاهات الفلسفة العقلية وبين المحدثين، واتجاهات النص ومدرسة الحديث والأخبار. اذن؛ لنبدأ الحديث عن اليقين المنطقي تحليلاً وتفسيراً ونقداً:
اليقين المنطقي:
اليقين المنطقي عند أرسطو يشمل اليقين الرياضي، واليقين المنطقي حسب نظرية القياسي الأرسطية، واليقين التجريبي. بلی المعرفة العلمية في مدرسة أرسطو هي المعرفة اليقينية البرهانية، أي ما يدخل تحت غطاء نظرية البرهان وصناعته، وما سواها يدخل في صناعة الجدل، وغيرها من الصناعات الخمسة الأرسطية. من هنا نلاحظ أنّ البرهان في حدوده وشروطه ـ حسب مدرسة أرسطو( ) ـ هو حجة العلوم، ومن خلال إقامته علی أي نظرية من النظريات يتولد اليقين الذي لا ينفك بهذه النظرية، ومن ثم تدخل هذه النظرية في دائرة المعرفة العلمية.
البرهان المنطقي والرياضي، الذي يُنتج اليقين، الذي لا يزول ـ حسب أرسطو ومدرسته ـ يستند علی قاعدةٍ من البديهيات اليقينية. أما اليقين التجريبي الإستقرائي ـ حسب المدرسة الأرسطية ـ فهو ناتج عن استقراء الظواهر وتكرر وقوعها، وضمّ قاعدة عقلية بديهية «الدائمي والأكثري لا يكون صدفه».
أي أن الاستقراء وحده لا يُنتج اليقين، فمهما تراكمت القرائن والشواهد علی صدق العلاقة بين أ ـ ب، لا يبلغ صدق هذه العلاقة الی مرحلة اليقين، ما لم ينضم الی هذه القرائن مبدأٌ بديهيّ مدرك ادراكاً أولياً سابقاً علی التجربة والحس (معطی عقلي خالص). ومن المؤكد أنّ هذا المبدأ البدیهي، وسائر المبادئ البدیهیة في المنطق والریاضة والأخلاق هي مبادئٌ یقینیة، وفق أصحاب هذه البدیهیات.
من هنا یُطرح أمامنا یقینٌ ذو طابع خاص، وهو: «الیقین البدیهي». هذا الیقین الذي لم تُغادر دائرة النقاش حوله، فهو بدایة المعرفة، وهو إشكالیتها علی مستوی حجج المعرفة الإنسانیة الإستنباطیة والإستقرائیة. المعرفة الإنسانیة (ككل تعیّنات عالم الوجود «عالم الإمكان») لابد أن تكون لها بدایة، فهل تبدأ من قضایا یقینیة، نصطلح علیها بالأولیات، أو الاصول الموضوعة، أو البدیهیات؛ أم لا تتعدی بدایات المعرفة المواضعات، وما تتفق علیه الجماعات العلمیة من قضایا؟ هذه إشكالیة أساسیة من صلب نظریة المعرفة في عصر الحداثة، وقد تحریت مقاربتها في الجزء الأوّل من كتابي «نظریة المعرفة»، وأظن أنّ متابعتنا اللاحقة لنظریة المعرفة تضطرنا الی الوقوف مجدداً علی معالجة هذه الإشكالیة.
یهمنا هنا بذل المستطاع في فهم «البداهة ویقینها»، أي تحدید مصطلح البدیهي، وتحلیل طبیعة الیقین الذي یكمن في المدركات البدیهیة، التي تتمثل في قضایا، یمكن وصفها بالصدق والكذب، إذ الیقین ینصب علی النسب والعلاقات، نفیاً أو إثباتاً.
كنت اعتقد أنّ مفهوم «البدیهی» في المعرفة الإنسانیة ینبغي ان نسأل عنه فیثاغورس واقلیدس، ونحلة علماء الریاضیات. لكن متابعاتي التاریخیة، خصوصاً لما كتبه مؤرخ العلم الكبیر «جورج سارتون» أفضت الی تغییر قناعاتي؛ ذلك أن نظام المعرفة والعلم الإنسانیین لم یتعرف علیه فیثاغورس، رغم ان بعض ما اُشتهر عن فیثاغورس في مسألة مساحة المربع المُقام علی ضلع المثلث قائم الزاویة یعبر عن ومضة من النبوغ الهندسي المبكر في بلاد الیونان. ولم یكن «اقلیدس» الا خلفاً لأرسطوطالیس ومتتلمذاً علی عطاء أرسطو، ونظام تفكیر المعلم الأول معرفیاً.
إن النظام الریاضي في هندسة اقلیدس یمثل في جوهره وجهاً من وجوه نظریة «البرهان» الأرسطیة، وإن ما طرحه اقلیدس في «الاصول»، كمنهجٍ لنظریة الإستنباط الهندسي، ینبغي التماسه في «التحلیلات الثانیة» من منطق أرسطو، وعموم نظریة البرهان في المعرفة الأرسطیة، أي الفهم الأرسطي لنظریة الاستنباط في المعرفة الإنسانیة عامة، وموقع الیقین فیها، مما یضيء فهمنا بشكلٍ جلي لمفهوم الیقین البدیهي.