اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > باليت المدى: كلنا غرباء في هذا العالم

باليت المدى: كلنا غرباء في هذا العالم

نشر في: 10 يونيو, 2024: 12:24 ص

 ستار كاووش

الابداع بشكله العام هو أن تبتكر شيئاً خاصاً بك، أن تجد الطريق الذي يوصلك الى ما تطمح اليه من أعمال فنية. وهنا عليكَ أن تفتح نافذتك بإسلوبك الخاص، وتنظر الى الأشياء بطريقة تمثلك، لتجد بذلك مرادفاً تشكيلياً لما تراه. هذه الكلمات تنطبق على أعمال الفنان حسن حداد الذي يقيم معرضه الشخصي الجديد (تجارب وآفاق) في قاعة الأورفلي بمدينة عمان.
لا يمكنك أزاء أعمال حسن حداد إلا أن تتسلح ببعض المعرفة والخيال ومعرفة تقنيات العمل الفني، وذلك لأن لوحاته تشبه قصائد غامضة ومحمَّلة بشِعرية عالية وخيال واسع، وبهذا تكون بعيدة المنال عن كل مشاهد سهل ويتنقل بسرعة وغير معرفة أمام اللوحات. هكذا علينا أن نتجلد بعض الشيء ونحن ننظر الى هذه العالم الذي صنعته فرشاة هذا الفنان المتمرس وصاحب التجربة الطويلة في الرسم.
يقول بيكاسو (إتقن القواعد كمحترف، كي تستطيع كسرها كفنان) وهذا ما تقوله لوحات حسن حداد الذي عرفتهُ منذ سنوات طويلة جداً وتابعتُ تجاربه العديدة منذ دراستنا معاً بأكاديمية الفنون الجميلة في بغداد، وحتى بعد أن إستقر في مدينة لايبزغ حيث يعيش ويرسم منذ سنوات طويلة متفرغاً للفن وصنع الجمال، لا تهمه موضات الفن التي انشغل بها الكثيرون، ولم يمنح طاقته الفنية لما تتطلبه العروض الرائجة والسهلة، ولم تأتي لوحاته من خلال المصادفات التقنية والمعالجات العشوائية التي يلجأ لها الكثيرون، بل إستوعب الدرس جيداً، أقصد درس الرسم وصنع الجمال المتفرد، وقدم كل ذلك بلغة رفيعة المستوى وتقنية أنيقة وممتعة للبصر، وعكسَ على قماشاته أحلامه كفنان يسعى لوضع بصمته الخاصة. وحتى حين ينظر حسن حداد الى العالم الخارجي ويتأمله ويتعايش معه، فهو لم يتوقف عند هذا الحد، بل يٌيد رسمه بطريقة جديدة ومختلفة ودون محاكاة، ويقدم أعماله المتقنة وحلوله الجمالية.
حين نتمعن في لوحات حسن حداد ونتنقل بين مفرداتها الرمزية، نتحسس رهافة الرسم، كذلك الإنسجام الغريب بين المفردات التي تبدو لنا متباعدة وغير متجانسة في الواقع، لكن هذا الفنان وبحساسية عالية جعلها منسجمة ومتآلفة بطريقة فريدة. وهنا تصبح المعالجات سيدة الموقف وهي التي تقول كل شيء، وهذا في الحقيقة هو فحوى الرسم وغايته أيضاً، فالموضوعات بشكل عام موجودة على أرصفة الطرقات، لكن كيف نرسم هذه الموضوعات وكيف نتناولها بطريقة فريدة؟ كيف نمنحها طابعاً شخصياً؟ وكيف نـقدمها من خلال زاويتنا الذاتية ونجعلها مؤثرة؟
كي نتعرف على لوحات حسن حداد بشكل مناسب، علينا أن ننتبه الى الرموز والمفردات التي رسمها. ففي إحدى اللوحات نرى شخصاً وحيداً يجلس في زورق وسط بحر موحش، فيما يهتز ذات الزورق في لوحة أخرى وكإن الشخص على وشك أن يلقي نفسه في الماء، وفي واحدة أخرى يرمي ذات الشخص شباكه الواسعة نحو الماء، فتغطي الشِباك وجه هذا الشخص وتُلغيه، بل تكاد هذه الشباك أن تُغطي كل اللوحة. تُرى هل هي مراكب الموت التي أبحر بها الكثيرون نحو شمال العالم؟ أم هي الوحدة التي كانت قدر الكثير من المغتربين؟ نتأمل اللوحات أكثر، فنرى إن الشخصيات التي رسمها حداد تقترب من هيئته كثيراً، نعم هناك إشارة للرسام في أكثر من موقع، حيث نرى بقايا ملامحه وشيء من تفاصيله التي إستقرت على قماشات الرسم. وبذلك جعل حسن حداد لوحاته مثلَ كتاب مذكرات تغفوا فيه أيامه.
نتأمل لوحات حسن حداد أكثر، فنصبح كإننا جزء من هذه اللوحات ونعيش بين تصميماتها المتقنة وتكويناتها الأنيقة وفضاءاتها الغامضة، ونُبحر وسط التوازن المدهش بين العناصر. وكوني أعرف هذا الفنان منذ سنوات طويلة، وخبرتُ أعماله جيداً، لذا أفهم كيف وظَّفَ في أعماله خبرته في دراسة التصميم الطباعي الذي درسه في أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد. فليسَ ثمة زحام مفتعل ولا تفاصيل غير ضرورية، ومن خلال مفردات قليلة ومقتضبة، قدم لنا حداد أعمالاً مبهرة وتحمل الكثير من الرمزية، حيث يكون فضاء اللوحات المفتوح مثل نافذة، أو الموحش مثل حلم بعيد المنال، هو الأساس الذي بنى عليه حداد عالمه المثير.
كلما تابعنا أعمال حسن حداد وأطلنا النظر الى مفرداتها، تبدوا لنا الشخصيات المبهمة التي يرسمها، كإنها قد نجت من محن كثيرة أحاطت بها، شخصيات خرجت من أزماتها بأشكال ووجوه متعبة وغامضة ودون ملامح واضحة. هكذا ترك الزمن بصماته وإستبدل ملامح الناس بأشكال مموهة. وفي كل أعماله هناك حركة مباغتة تقوم بها هذه الشخصيات، أو فعل غير مُتوقَع يكسر الهدوء الذي تشير اليه فضاءات اللوحات بشكل عام، ثم تعود السكينة من جديد، وكإنها الهدوء الذي يسبق العاصفة. وهكذا نحن بإنتظار فعل ما تقوم بها هذه الشخصية المبهمة في إحدى اللوحات أو صرخة يطلقها ذاك الوجه الغريب في لوحة أخرى. وربما هذا الذي يجعلنا نشعر أمام لوحاته بـأننا غرباء في هذا العالم، كلنا غرباء، وعلينا التعايش معاً والمضي في هذا الطريق الذي يتسع لنا جميعاً.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. رواء سليم

    منذ 3 أسابيع

    فنان مقتدر من خلال لوحاته يسترسل في محاكاة المتلقي وتوجيه له النصح في اتخاذ قراراته

يحدث الآن

اليوم ..خمس مباريات في انطلاق الجولة الـ 36 لدوري نجوم العراق

بدء التصويت في انتخابات فرنسا التشريعية

"واتساب" يختبر ميزة جديدة عند الفشل بارسال الصور والفيديوهات

تطوير لقاحات جديدة للقضاء على الحصبة نهائياً

الأونروا: سكان غزة فقدوا كل مقومات الحياة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

المتفرجون أعلاه

جينز وقبعة وخطاب تحريضي

تأميم ساحة التحرير

زوجة أحمد القبانجي

الخارج ضد "اصلاحات دارون"

العمودالثامن: جمهورية بالاسم فقط

 علي حسين ماذا سيقول نوابنا وذكرى قيام الجمهورية العراقية ستصادف بعد أيام؟.. هل سيقولون للناس إننا بصدد مغادرة عصر الجمهوريات وإقامة الكانتونات الطائفية؟ ، بالتأكيد سيخرج خطباء السياسة ليقولوا للناس إنهم متأثرون لما...
علي حسين

قناديل: لعبةُ ميكانو أم توصيف قومي؟

 لطفية الدليمي أحياناً كثيرة يفكّرُ المرء في مغادرة عوالم التواصل الاجتماعي، أو في الاقل تحجيم زيارته لها وجعلها تقتصر على أيام معدودات في الشهر؛ لكنّ إغراءً بوجود منشورات ثرية يدفعه لتأجيل مغادرته. لديّ...
لطفية الدليمي

قناطر: بين خطابين قاتلين

طالب عبد العزيز سيكون العربُ متقدمين على كثير من شعوب الأرض بمعرفتهم، وإحاطتهم بما هم عليه، وما سيكونوا فيه في خطبة حكيمهم وخطيبهم الأكبر قس بن ساعدة الإيادي(حوالي 600 ميلادية، 23 سنة قبل الهجرة)...
طالب عبد العزيز

كيف يمكن انقاذ العراق من أزمته البيئية-المناخية الخانقة؟

خالد سليمان نحن لا زلنا في بداية فصل الصيف، انما "قهر الشمس الهابط"* يجبر السكان في الكثير من البلدان العربية، العراق ودول الخليج تحديداً، على البقاء بين جدران بيوتهم طوال النهار. في مدن مثل...
خالد سليمان
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram